أقلام

دمعة على خدّ الأب وصرخة في ضمير الابن

أحمد الطويل

مقدمة:

حين يغيب البر، تبهت الأرواح.

هل فكّر أحدنا يومًا: من الذي كان يسهر الليل حتى لا نبكي؟

من الذي باع شبابه لنشتري به حروف الهجاء؟

من الذي كانت دموعه تسقط على وسادة من خوف أن لا نجد طعامًا في الغد؟

إنهم الوالدان، وتحديدًا ذلك الجبل الصامت: الأب.

نعم، هو لا يشتكي، ولكنه يتألم.

لا يطلب، ولكنه بحاجة.

قد يبدو قاسيًا أحيانًا، ولكنه حنون بما لا تُطيقه الكلمات.

حين نغفل عن زيارة أبٍ أفنى عمره لأجلنا، وننشغل عنه بأوهام عمل أو متع الحياة، فاعلم أن شيئًا من إنسانيتنا قد مات.

نداء السماء: بر الوالدين فريضة لا تموت

قال الله تعالى: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}.

ما بعد التوحيد مباشرة، يأتي البر بالوالدين!

فهل عرفتَ مكانته؟

روى الإمام الصادق (عليه السلام): “برّ الوالدين من حسن معرفة العبد بالله، لأنه لا عبادة أسرع بلوغًا لصاحبها من برّ الوالدين”.

فبرّ الوالدين ليس فقط “خلقًا اجتماعيًا”، بل هو طريق إلى الله، سُلَّم في السلوك، بوابة للرضا الإلهي.

برهان العقل: من لا يشكر السبب لا يستحق النتيجة

الفلاسفة قالوا: “شكر المعلول يكون بشكر العلة”.

فأنت إن وصلتَ إلى مكانة، نجاح، علم، حتى لو كنت عظيمًا في نظرك، فاعلم أن أول خطوة خطوتها كانت بأصابع أبيك وهو يُمسك يدك لتقف.

هل تستطيع أن تنكر أنك مدين له في كل شيء؟

أنك من غيره، لم تكن لتفك الخط، لم تكن لتأكل، لم تكن لتقف.

من هنا، العقل يحكم بوجوب الشكر، والقرآن يُؤكده: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}.

روايات أهل البيت: صوتُ الجنة يبدأ من بيت أبيك

قال رسول الله صلى الله عليه وآله: “من نظر إلى والديه نظر ماقت، وهما ظالمان له، لم يقبل الله له صلاة”.

وقال الإمام زين العابدين (عليه السلام) في رسالة الحقوق: “وحق أبيك أن تعلم أنه أصلك، وأنه لولا هو لم تكن”.

فهل يمكن أن تنسى أصلك؟

هل تُنكر من غرسك وسقاك من دمه وراحته؟

كيف تكسر قلبًا تعب من أجلك؟

أيها الابن، أيتها البنت، هل تذكران حين سهر والدكما الليل لأنكما مريضان؟

هل تذكران كم مرة عاد من عمله متعبًا، بملابس مغبرة، ووجهه مبلل بالعرق، فقط لأنه أراد أن تعيشا أفضل؟

إنه الأب الذي ربما سقط دمه من أنفه في عمل شاق، فقط ليجلب لقمة عيش، فهل جزاؤه أن ترفع صوتك عليه أو تتجاهل رسائله أو تمر عليه الشهور لا تذكر وجهه؟

أما سمعنا قول الإمام الصادق عليه السلام: “من نظر إلى والديه نظر رحمة، كتب الله له بكل نظرة حجة مبرورة”.

فما بالك بمن لا ينظر أصلًا؟ ومن لا يزور؟ ومن لا يسأل؟

هناك نوع من العقوق لا يكون بالصوت العالي، بل بالصمت القاتل.

أن تمر الشهور دون زيارة، أن لا تهتم، أن لا تسأل، أن تضع عملك فوق أبواب الجنة.

قال أمير المؤمنين عليه السلام: “عقوق الوالدين من الكبائر”.

وأسوأ العقوق أن يُفاجأ الأب بأن ابنه “مشغول عنه”، بينما هو مستعد أن يقطع البلاد لأجل رؤيته.

رسالة إلى البنت: لا تُعلّميه كيف يتكلم، لقد علّمك كيف تعيشين.

ابنتي، حين تنظرين إلى والدك على أنه “لا يعرف كيف يتحدث معك”، أو “غير مثقّف بما يكفي”، أو “قديم التفكير”… توقفي لحظة. واسألي نفسك: من أدخلك المدرسة؟ من أحضرك إلى الحياة؟ من تحمل نظرات الناس وهو يسير بثياب بالية فقط ليشتري لك ثوبًا جديدًا؟

لا ترفعي صوتك عليه.

ولا تُعلّميه أصول الحياة.

هو من علّمك كيف تحيين، وكيف تكونين امرأة ذات عزّة.

برّ الوالدين سلوك لا يُؤجل… لا تتأخر قبل أن يُقال فات الأوان

كثير من الأبناء يُؤجل الزيارة، المكالمة، العناية، بحجة العمل، أو الضغوط، أو الانشغال، حتى يستيقظ ذات يوم ليُدرك أن الصوت قد خفت، وأن الباب الذي كان يُفتَح له كل مرة، قد أُغلق للأبد.

لا تنتظر أن تندم.

فالجنة لا تُنتظر طويلاً.

ولا يبقى للأبوان سوى ذكراك وسؤالك.

الخلاصة:

حين تبكي جبهته تعبًا، لا تجعله يبكيك خذلانًا.

الأب ليس جدارًا من صمت، بل هو سور من دم وتضحية.

هو أول من حملك، وآخر من يشتكي.

إن نسيت كل الدنيا، فلا تنسَ من جعل لك وجهًا يُرى في هذه الدنيا.

برّ الوالدين ليس مستحبًا عابرًا، بل هو عبادة بحجم السماء، طريق إلى الجنة، بل هو الجنة.

أيها الابن… أيّتها البنت…

حين تهمّ بقول، فتذكّر أن هذا الأب قال أول “كلمة” علمتك النطق.

وحين ترفع صوتك، فتذكّر أنه خفض صوته حين كنت صغيرًا حتى لا تُفزع.

فإن كنت لا تراه الآن سندًا… فاعلم أنه كان يومًا كلك.

اللهم ارزقنا برّ والدينا في حياتهم وبعد رحيلهم، ووفقنا لرضاهم، وارزقهم صحة وعافية، وأجرًا عظيمًا، ورفعة في الدنيا والآخرة، واجعلنا من الذاكرين لمكانتهم، يا أرحم الراحمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى