أقلام

محراب الذاكرة (١) عاشوراء بين الترميز و الخلود

السيد فاضل آل درويش

البحث في الحضور الوجداني لتلك الشخصيات العظيمة ينطوي على تأمل وتدقيق في معالمها وأبعادها، فالذكرى لا تقتصر على الجانب العاطفي المجرد عن التآزر والتفاعل العقلي وبروزه بعد ذلك في الجانب السلوكي (القدوة)، وهذا سر الخلود واختراق العامل الزمني وسكون الصورة في الوجدان مع تعاقب الأجيال؛ ليطرح ذلك سردية الماضي ولفه بعباءة النسيان بعد تلاشي تفاصيله وحضوره الخالد شيئًا فشيئًا، كما يحدث ذلك مع الكثير من الصور المزدحمة في العقل لأحداث ماضية مع قوة التأثّر بها، فهناك من الصور ما لا يمكن نسيانه وتأتي الذكرى لتعيد طرحه والتذكير بوجوده الكمالي، وأعلى تلك الدرجات للحضور هو عدم النسيان أصلًا بل العقل والضمير الإنساني يستذكره في مختلف المواقف والأحداث، ويتخذه رمزًا ومتأسّى يستحضره في الوجدان ويتحرك في ظلال توجيهاته، ولذا فإن مستوى التذكار والتنبيه والترميز الزمني في أيام معينة يتجاوزه ليخلد في الذاكرة والضمير.

وعاشوراء ليست مجرد ذكرى زمنية تّستحضر في تفاصيلها ومضامينها دون تدوينها في الوعي والنضج الفكري والسمو الأخلاقي التكاملي للإنسان.

العامل المؤثر في نيل هذه المكانة العالية في الوجدان وعبور الأثير الزمني هو عامل الحب، فهناك علاقة قوية لا تتأثر بزمان أو مكان معين بل وجود المحبوب وذكراه تتحرك مع نبضات القلب وشهقات النفس، فيندمج الفرد في قراراته وتصوراته وفق تلك التحفة الخالدة التي تمثّل منهجًا يسير على خطاه دون تردد، وهذه المحبة هي المحفّز للاندماج والاندكاك مع محاور وأهداف السيرة الحسينية، إذ شخصية الإمام الحسين (ع) في الذاكرة الواعية رمز للكرامة والعزة والحكمة والصلابة في الحق والموقف، ففعالية وتأثير الأنانية – مثلًا – على الفرد وجرّه نحو التقوقع نحو ذاته ومصالحه الخاصة، ينماث ويتلاشى وجودها مع استحضار التضحية الحسينية وتقديم كل شيء في سبيل الله عز وجل، ولذا فإن المنبر لا يستحضر هذه العلاقة الوجدانية والفكرية فحسب بل يكرّسها في التربية والسلوك.

الإمام الحسين (ع) له حضور راسخ وثابت ومتجذَّر في النفوس الأبية والمنصفة، وهو شعلة لا تنطفيء وصوت الضمير الواعي والمنهج الذي يسير عليه طلاب الحق والبصيرة، وتحوّلت آلام وجراح كربلاء إلى خيط أمل عند أصحاب الإرادة والنفس الطويل والهمة العالية في تحقيق غاياتهم ، وتلك المنابر الحية تأخذ دورها المحوري في تبيان معالم النهضة الحسينية وأهدافها وتأثيرها على الوعي الفكري والاستقامة السلوكية، إذ تلك المحاضرات لا يلفها الجمود أو التكرار بل هي حية كلما تناولت بعدًا من أبعاد النهضة الحسينية، وتم ربطها بعالمنا المعاصر كموجه في قضايانا التربوية والاجتماعية والثقافية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى