أقلام

الفقر اللغوي لدى الأطفال: أزمة علمية في عصر الرقمنة وهيمنة المحتوى الأجنبي

غسان بو خمسين

تعد قضية “الفقر اللغوي” لدى الأطفال أزمة تربوية حقيقية تتطلب التفاتة جادة من المختصين وصناع القرار. فهي ليست مجرد نقص في المفردات، بل هي تحدٍ متعدد الأبعاد يمس صميم قدرة الطفل على التواصل، التعلم، الاندماج الاجتماعي، وحتى تشكيل هويته في هذا العصر الرقمي المتسارع. تؤكد الأبحاث والدراسات العلمية أن هذه الظاهرة، وإن بدت صامتة، إلا أن تداعياتها عميقة على مستقبل مجتمعاتنا.

تداعيات الفقر اللغوي: من غياب الكلمة إلى تآكل الهوية

تشير الدراسات الرائدة في علم اللغة التطبيقي، وعلم النفس اللغوي، وعلم الأعصاب المعرفي إلى أن التعرض اللغوي الكافي والمتنوع في السنوات الأولى من حياة الطفل هو حجر الزاوية لتطوره المعرفي والاجتماعي. عندما يفتقر الطفل إلى هذه البيئة اللغوية الغنية، تظهر آثار الفقر اللغوي بوضوح.

ضعف التواصل: يجد الأطفال صعوبة بالغة في التعبير عن أفكارهم ومشاعرهم بوضوح ودقة. ويتجلى ذلك في استخدام مفردات محدودة، وبناء جمل بسيطة أو غير مكتملة، مما يعيق قدرتهم على المشاركة الفعالة في الحوارات ويؤثر سلبًا على علاقاتهم الاجتماعية. يشير البروفيسور بول فليتشر (Paul Fletcher)، أحد أبرز الباحثين في اضطرابات اللغة لدى الأطفال، إلى أن “نوعية وكمية المدخلات اللغوية التي يتلقاها الطفل في سنواته الأولى هي المؤشر الأقوى على تطوره اللغوي اللاحق”. التحديات الأكاديمية: اللغة هي عماد التعليم. فالأطفال الذين يعانون من فقر لغوي يواجهون صعوبة في فهم النصوص الدراسية المعقدة، واستيعاب المفاهيم المجردة، والتعبير عن إجاباتهم بطلاقة. يؤثر هذا سلبًا على تحصيلهم الأكاديمي، وقد يؤدي إلى تراجع مستوى الاستيعاب والشغف بالتعلم، وربما التسرب المدرسي، خاصة في بيئات الازدواجية اللغوية بين العامية والفصحى. وفي دراسة أجرتها الباحثة غادة الكيلاني (2018) على أطفال عرب أظهرت ارتباطًا وثيقًا بين ضعف المفردات في اللغة العربية الفصحى وتدني الأداء في مواد مثل الرياضيات والعلوم، مما يؤكد أن التحدي اللغوي لا يقتصر على مادة اللغة فحسب.

تأثيرات على النمو العصبي المعرفي: أثبتت أبحاث الدكتورة دانا سوزوكي (Dana Suskind) في جامعة شيكاغو، أن حجم المدخلات اللغوية يؤثر مباشرة على اللدونة العصبية في مناطق الدماغ المسؤولة عن اللغة. الأطفال الذين يتعرضون لكميات أقل من الكلمات أو لمفردات أقل تنوعًا، قد يواجهون تحديات في بناء شبكات عصبية قوية تدعم التفكير النقدي، حل المشكلات، وصياغة الأفكار المعقدة، وهي مهارات أساسية للنمو المعرفي الشامل. *تآكل الانتماء والهوية* : اللغة هي الوعاء الذي يحفظ الثقافة والتاريخ والهوية. وعندما تضعف صلة الطفل بلغته الأم بتراثها الغني، فإنه قد يفقد القدرة على تذوق الأدب والشعر العربي، أو فهم الحكايات الشعبية والأمثال التي تشكل نسيج هويته. وهذا الضعف قد يورث شعورًا بالانفصال عن الجذور الثقافية والتاريخية، مما يؤثر على تشكيل هوية راسخة.

البعد الرقمي والتقني: أصبحت الشاشات جزءًا لا يتجزأ من حياة الأطفال، حيث تلعب الأدوات والمنصات الرقمية دورًا حاسمًا يمكن أن يكون عامل تمكين أو معيقًا للنمو اللغوي، حيث تواجه اللغة العربية تحديًا كبيرًا يتمثل في وفرة المحتوى الأجنبي على المنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي، في مقابل ندرة المحتوى العربي عالي الجودة والجذاب الموجه للأطفال. ويقضي الأطفال ساعات طويلة في مشاهدة الرسوم المتحركة، الألعاب، ومقاطع الفيديو باللغات الأجنبية، خاصة الإنجليزية. هذا التعرض المفرط يؤدي إلى إثراء حصيلتهم اللغوية في تلك اللغات على حساب لغتهم الأم. وأشارت دراسة لجامعة كاليفورنيا (2020) إلى أن الأطفال في البيئات ثنائية اللغة الذين يتعرضون لكميات أكبر من اللغة الأجنبية عبر الشاشات، قد يظهرون تأخرًا في اكتساب لغتهم الأم إذا لم تتوازن المدخلات اللغوية بشكل كافٍ. وتقوم وسائل التواصل بدور سلبي ومؤثر، فهي تُغرق المحتوى الرقمي الأطفال بلغة مبسطة ومختصرة، تعتمد على العامية المبتذلة، وتغفل القواعد النحوية السليمة والمفردات الغنية. التعرض المستمر لهذا النوع من المحتوى يمكن أن يثبط التطور اللغوي السليم، ويقيد مخزونهم اللغوي. كما أن التركيز على المحتوى البصري السريع قد يقلل من فرص التعرض للنصوص الطويلة والمعقدة التي تنمي التفكير النقدي وقدرات الاستيعاب. ولكن يمكن القول إن هناك جانبًا إيجابيًّا لهذه الوسائل، فهي تحمل إمكانات هائلة لتعزيز اللغة العربية واللهجات. وقد يمكن استغلال التطبيقات التعليمية التفاعلية، الألعاب اللغوية، والمنصات التي تقدم محتوى صوتيًا ومرئيًا غنيًا باللغة الفصحى واللهجات الأصيلة، لتعليم الأطفال بطرق مبتكرة وجذابة. ويمكن للمحتوى الرقمي الموجه بذكاء أن يصبح جسرًا يعزز حب اللغة ويثري مخزونهم اللغوي. تجدر الإشارة هنا لبعض المؤشرات على الفقر اللغوي، منها: قلة التراكيب المعقدة في الكلام أو الكتابة. تكرار مفرط لمجموعة محدودة من المفردات. صعوبة الانتقال بين الأساليب والمقامات. الاعتماد على الإشارات والإيماءات بدلًا من اللغة الصريحة. الفشل في فهم السياق أو النية التواصلية للآخرين. بعد استعراض مشكلة الفقر اللغوي عند الأطفال وآثارها، يمكننا استعراض بعض الحلول المقترحة: دور الأسرة والمحيط: يجب على الآباء إثراء البيئة اللغوية في المنزل من خلال القراءة اليومية بصوت عالٍ، وتشجيع الحوار الهادف، وسرد القصص، وتعريف الأطفال بمختلف المفردات والتعبيرات، مع تقنين زمن الشاشات وتوجيه المحتوى نحو الجودة. يشدد البروفيسور هارتموت شيرمان (Hartmut Scherz) من جامعة برلين على أن “التفاعل اللفظي الغني بين الوالدين والطفل هو المحرك الرئيس لتنمية اللغة”. دور المؤسسات التعليمية: ينبغي على المدارس إعادة النظر في مناهج تدريس اللغة العربية لتجعلها أكثر جاذبية وتفاعلًا، مع التركيز على المهارات اللغوية الأربع (الاستماع، التحدث، القراءة، الكتابة)، وتشجيع القراءة الحرة.

مسؤولية الإعلام والمحتوى الرقمي: تقع على عاتق صناع المحتوى والإعلام مسؤولية أخلاقية في تقديم محتوى رقمي ومرئي ولغوي سليم ومثرٍ، يساهم في بناء قدرات الأطفال اللغوية وليس في إضعافها. يجب دعم المبادرات التي تنتج محتوى عربي رقمي عالي الجودة وجذاب قادر على منافسة المحتوى الأجنبي واستقطاب اهتمام الأطفال. في الختام، ثمة مقولة لنعوم تشومسكي عالم اللسانيات المعروف (اللغة ليست مجرد كلمات. إنها ثقافة وتقليد وتوحيد مجتمع وتاريخ كامل يخلق ما هو المجتمع. كل شيء متجسد في اللغة). وقد استلهم أحدهم من آرائه في اللغة مقولة (اللغة هي الحمض النووي للثقافة)، في إشارة جميلة وعميقة بأن اللغة هي الوعاء والحوض الحامل للثقافة والمعرفة تتوارثها الأجيال. ينبغي على الآباء والمربين والمعلمين استشعار المسؤولية الملقاة عليهم، والعمل على الحد من هذه الظاهرة المؤرقة. إن الاستثمار في ثراء لغة أطفالنا هو استثمار في بناء جيل قادر على التفكير النقدي، والتواصل بفعالية، والاحتفاظ بهويته الثقافية في عالم يزداد تعقيدًا. فلنعمل معًا، بالاستناد إلى المعرفة العلمية، لبناء حصن لغوي يحمي أجيالنا من تحديات الفقر اللغوي وهيمنة المحتوى الأجنبي في هذا العصر الرقمي المتسارع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى