استنطاقُ الذوات والأدوات في الشعر الكربلائي مقاربة في تجربتي جواد جميل وناجي حرابة (قراءة تأملية)

محمود المؤمن
إذا كان علاَّمة الأدب الفارسي صدر الأفاضل يقول عن ترجمة الصافي النجفي لرباعيات الخيام ((أكاد أعتقد أن الخيام نظم رباعياته بالفارسية والعربية وفُقِدَ العربي منها حتى عثرت عليها يا صافي وانتحلتها لنفسك))،
فإني أقول للشاعر الكبير جواد جميل ((إن كنت عزمت على كتابة أجزاء أخرى لديوانك الحسين لغة ثانية فإن ناجي حرابة كفاك مؤونة ذلك حين أصدر ديوانه محاكمة الأسلحة الظالمة في معركة كربلاء))، لأن ناجي حرابة استوعب التجربة الحسينية لجواد جميل وبنى على أساسها مشرعه المتكامل بنَفَسِهِ الشعري الخاص،رغم أن الفاصل الزمني بينهما خمس عشرة سنة، فقد أصدر جواد ديوانه عام 1996م، بينما ناجي أصدر ديوانه عام 2011م.
وسأحاول جاهدًا في هذه الدراسة أن أسطر ما انقدح في ذهني من تأملات، لعلها تسهم في إثراء الساحة الأدبية من ناحية تناول الشعر الكربلائي/الملحمي فإن الشعراء بوجه عام منذ مقتل سيد الشهداء عليه السلام أبدعوا في المراثي الحسينية من زوايا مختلفة،
وإنما جاء اختياري لهذين الديوانين لأنّ بينهما ما يُشبه علاقة النصِّ بسِرِّه، أو الصدى بصوتٍ غائبٍ يعود متحوّلًا.
وقد ارتأيت أن أجازف بالمقاربة فيهما، وأسأل من الله أن تكون هذه المجازفة موفَّقة ومُتقَبَّلة وأن تسهم في فتح أفق جديد لتلقي الشعر الكربلائي، ليس بوصفه رثاءً، بل خطابًا كونيًا ينتمي للذاكرة والمستقبل معًا
في الديوانين تتحول الفكرة إلى كائن درامي متوتر، تتصاعد فيه الأصوات وتتناثر الاعترافات واللعنات، فيما يلوح صوت الحسين كضمير غائب/حاضر.
إن استنطاق الذوات والأدوات ليس مجرد تجريب أسلوبي، بل رؤية شعرية فلسفية تسعى إلى تخليد الموقف القيمي الذي مثَّله الحسين، وتحوّل واقعةِ كربلاء إلى “محكمة شعرية أبدية” لا تغلق أبوابها.
يقول الشاعر جاسم الصحيح (فكرة المحاكمة هي دليل على الوعي الشعري الذي يتمتع بها الشاعر والذي تمخض عن هذه الالتفاتة الآسرة).
وسأتناول في هذه الورقة سبعة محاور هي:
1. عتبة العنوان بين التلميح الرمزي والتصريح القضائي
2. دلالة الإهداء بين الرفض والتغييب
3. الهيكلية العامة للتقسيم الإبداعي
4. التنوع في البنية الإيقاعية
5. الذوات والأدوات بين الإشادة والإدانة
6. الصوت الجمعي بين الإنحناء المتفاقم والإحتجاج المتصاعِد
7. الخاتمة: بين الإنفتاح الرؤيوي والإغلاق القضائي
المحور الأول:- عتبة العنوان بين التلميح الرمزي والتصريح القضائي
يعد عنوان الديوان هو المحور الذي تدور حول قطبه النصوص، وهذا جواد جميل من خلال عنوان ديوانه (الحسين لغة ثانية )) يسلك طريق التجريد والرمز و يفتح بوابة كبرى من التأويل، وكأن هذه اللغة الثانية ترمز لميتافيزيقية تحمل في طياتها دلالات يعجز وصفها تتكئ على الإيحاء الشعري واللغة المكثفة، ويتجلى ذلك في افتتاحية نصوصه حيث يستدعي صوت الحسين ليقول:
عينايَ صمتٌ غريبٌ، خلفهُ لغةٌ
أخرى ..وأشرعةٌ تنأى تَبتعِدُ
بعكس عنوان ديوان ناجي حرابة الذي يرسم ملامح المشروع الشعري بوصفه تقريرًا إجرائيًا لمحكمة شعرية “محاكمة الأسلحة الظالمة في معركة كربلاء” فهو واضح في رؤيته التي يتبناها ليؤسّس نصًا واقعيًا تقنيًا مؤسسًا على المحاكمة، مما يعكس تحوّلًا في خطاب الشعر الكربلائي من التأمل إلى الإدانة. وسيكتشف القارئ للديوان بأنه أمام محكمة شعرية رفيعة المستوى من ناحية توليد الفكرة والتحليق باللغة في خيال واسع.
وكلٌّ منهما يشكّل رؤية متكاملة تجاه كربلاء، إما باعتبارها وعيًا باطنيًّا، أو ملفًّا واقعيًّا مفتوحًا.
ومن العنوان، تتحدد طبيعة التلقي: بين نصٍّ مفتوح يتعامل مع “الحسين” كلغة، ونصٍّ مغلق يتعامل مع أدوات الحرب كمتهمين في ساحة العدالة.
المحور الثاني: دلالة الإهداء بين الرفض والتغييب:
لا يأتي الإهداء في ديواني جواد جميل وناجي حرابة بصورته التقليدية، بل يُحوَّل إلى عتبة غائبة تحمل من الدلالة أكثر مما قد تقوله الكلمات. فبين الرفض الصريح والتغييب المقصود، تتجلّى بلاغة الغياب، حين يصبح الإهداء مشبعًا بالرهبة والانكسار.
الإهداء في حضرة (ألم):- لم تغب (ألم) لدى كليهما متأرجحةً بين البداية والختام والتي بدأها جواد في إهدائه، فيضع (ألم) في مقام الخوف والغياب، كأنها حروف خائفة ومقطعة لم يُكمل بها النص بعد، أو كأن الوحي ذاته توقّف عند هذا المدخل ولم يُكمل (ذلك الكتاب)، وختمها ناجي حرابة في منتصف ديوانه حينما أدلت (البارية) بشهادتها صارخةً:
ضممتُ بأحناي
أعظم ما يُوقدُ الدّهرُ
من لاهبات الألم
ولمّا أصختُ
سمعتُ خليطًا من اللّحم والعظم
من مشرق النّحرِ
يتلُو (أَلَمْ)
حيث يجعل ناجي حرابة الحسين يتلو (ألم) من مشرق النحر، فإنّه لا ينقل صورة دموية فحسب، بل يؤسس لقراءة لاهوتية تنطلق من الجرح نحو الوحي، وتضع النص الإلهي في فم الشهادة بمعنى أن الآية تمّت، والتضحية فسّرت النص
فكلا الشاعرين يكتبان (ألم) بين قوسين، ويوحيان بقداستها القرآنية، وكأنها آية تُتلى لا مجرد كلمة.
*علامة شعرية معلّقة بين الغياب والانتظار:- يتجه إهداء جواد جميل لرمزٍ مقدس يتجاوز التاريخ عبَّر عنه بالأخضر الذي فضَّل الغياب ولم يعد بعد
والمقصود بالأخضر هو الحسين عليه السلام بقرينة الرؤيا الخامسة عشر
التي صرَّح بها قائلًا:
((وخيولٌ تُمزِّقُ الجسدَ الأخضرَ
تغدو مخبولةً وتروحُ
سيجيءُ الحسينُ يومًا يجيءُ البحرُ
في خطوهِ يجيءُ المسيحُ))
وكذلك بقرينة النبوءة التاسعة التي يشير إلى الحسين بصفته اتخذ الرحيل مسلكًا واتخاذنا الانتظار محطة موجعة
يا أيُّها الممتدُّ بينَ الضوءِ والدمِ،))
والمكفَّنُ بالغبارْ،
ظمِئتْ إليكَ الأنهرُ الخجلى،
وأومأتِ البحارْ!
يا أيُّها الممتدُّ بينَ جراحِنا والأمسِ،
علِّمْنا الرحيلَ معَ النهارْ،
وجعٌ.. ونحنُ مُسَمَّرونَ
على صليبِ الإنتظارْ!))
بينما ناجي حرابه يُغيِّبُ الإهداء في ظاهر الديوان، ولكنه في عمق نصوصه يوجه البوصلة لرمزٍ يُرتجى مجيئه
فلا نرى إهداءً ظاهرًا، بل نجد افتتاحًا بعنوان لافت: “في الطريق إلى المحكمة”. وكأنَّ الشاعر ناجي حرابة يرى أن المحاكمة الشعرية الكبرى هي نفسها الإهداء، وليس لشخص بعينه، بل للتاريخ، للعدالة، ولـ”القارئ المنتظر” الذي يظهر ملامحه بوضوح في ختام الديوان، حيث تتوجه القصيدة الأخيرة نحو الإمام المهدي (عج) بوصفه القارئ النهائي لـ (ألم) الكبرى، أي لمذبحة كربلاء لأنه الآخذ بثأر الحسين والطالب بدمه وفيها يقول الشاعر:
الأرضُ ذابلةٌ
وفي فمها الدُّعاءُ دمٌ
ومُقلتُها شُبُوحٌ
نحو فارسها المُغيّب
خلف سرداب الأصيل
من ذا سيرفعُ للعدالة أُسّها
ويُقيمُ محكمة الصّلاح
بطُول قامات النّخيل؟
وبطُول تاريخ الطُّغاة
بحجم نار المُستحيل
أطلق حصان النُّور
من كفّ (الـمُؤمّل)
إنّ حُنجُرة الشُّرُوق بوهجها
سُجنُ الصّهيل
كفكف دُمُوع الجُرح يا ربّي
وهيّئ في الأمان لهُ مقيل
في ختام هذا المحور نستطيع القول إن (ألم) في الإهداءين تتحول من حرفٍ إلى رمز، ومن نغمة خائفة إلى نشيدٍ دموي، ولكن معناها لا يكتمل إلا بظهور من سيقرأها كلها: الإمام المهدي بوصفه القارئ الختامي للشهادة الحسينية.
المحور الثالث:- الهيكلية العامة للتقسيم الإبداعي:-
إنّ تقسيم الديوان في التجربتين ليس بناءً تقنيًا فحسب، بل هو جزء من الرؤية الشعرية ذاتها.
فجواد جميل ينظم ديوانه بتقسيم شعري رؤيوي متعدد المستويات ضمن رؤى، نبوءات، وأبعاد تمثل مواقف ذوات من كربلاء.
بينما ناجي حرابة يبني ديوانه كمسرحة شعرية لمحكمة تُجري استجوابًا رمزيًا للجمادات، وتُنهي كلامها بصوت المنتظِر العادل وفق تسلسل قضائي متماسك.
وبهذا، تصبح أقسام كل ديوان خارطة جمالية للتلقي، وليس مجرد فهرس داخلي.
أولًا: أقسام ديوان «الحسين لغة ثانية» – جواد جميل
ينقسم إلى خمس بنى داخلية متداخلة:
1. الرؤى وعددها خمس عشرة رؤيا
• وهي مشاهد شعرية رؤيوية، تحمل خطابًا تأمليًا داخليًا
• يختلط فيها الزمن بالحلم، والرؤية بالحدث.
2. المشاهد وعددها عشرة مشاهد
• هي محطات في رحلة رمزية تتضمن وصفات شعريّة لمواقف أو لقطات من كربلاء.
3. الكورس :وهو مقطوعة متكاملة موزَّعة بين أربعة مشاهد
• صوت جماعي يتكرر بين المشاهد بانحناءات مختلفة، يمثل الوجدان الجمعي المنكسر
4. الأبعاد وعددها عشرة أبعاد
• تتعلق بشخصيات محورية في واقعة الطف.
• كل شخصية تمثل بُعدًا رمزيًا/سيكولوجيًا
والأبعاد هنا ليست فلسفة، بل قراءة وجدانية أخلاقية للشخصيات، يتم التعبير عنها عبر تسمية اللون الرمزي لبُعدها الشعوري والسلوكي في واقعة الطف.
5. النبوءات وعددها ثلاث عشرة نبوءة
• نصوص تنفتح على المستقبل، تُبشّر أو تُنبّه
• نبرة خافتة، فيها لغة استشرافية، رؤية أفقية
ثانيًا: أقسام ديوان «محاكمة الأسلحة الظالمة» – ناجي حرابة
يعتمد على بناء شِعري مُصاغ ضمن هيكل محكمة درامية بأقسام واضحة، يكون التاريخ فيها بمثابة القاضي وهي:
1. افتتاح المحكمة
• إعلان عن بدء المحاكمة الشعريّة لتاريخ الدم.
2. استدعاء الأدوات
• كل أداة (الغمد، العمامة، القربة، السهم…) تُستدعى وتُحاكم
• لكل أداة قصيدة بوصفها “شاهدًا” أو”متهمًا”
3. عرض الشهادات
• الأدوات تتكلم، وتروي ماذا فعلت أو ماذا حُمّلت به.
4. الاستئناف
• إعادة استعراض الموقف وإعادة قراءة الأدلة
5. القصيدة الأخيرة: محاكمة الإنسان الظالم في معركة الحياة.
• خاتمة الديوان، ينتقل فيها من محاكمة الأدوات إلى محاكمة الإنسان كمفهوم، وتُختم باستنهاضٍ مهدوي واضح للأخذ بالثأر.
المحور الرابع:- التنوع في البنية الإيقاعية:
جواد جميل يوظِّف الإيقاع كصدى روحي مثل تراتيل تصعد من مآذن الشعر، بينما ناجي حرابة يوظِّف الإيقاع كضرب مطرقة مثل طرقات قاضٍ على منصة العدالة.
إن القصيدة العمودية لدى جواد جميل تُستخدم لتأطير المشهد كصلاة شعريّة، بينما القصيدة التفعيلية لدى ناجي حرابة تُستخدم لتفجير الموقف كصوت احتجاجيّ، مما يعكس رؤيتين مختلفتين للإيقاع: الأولى تعبديّة، والثانية محاسبيّة.
يُلاحظ أن جواد جميل يجنح في أغلب نصوصه إلى اعتماد البنية العمودية الكلاسيكية، مستفيدًا من رنينها ورسوخها في الذاكرة الشعرية العربية، وخاصة في الشعر الديني والملحمي. ولكنّه لا يتقيد بها تقليديًا، إذ يلجأ أحيانًا إلى التهجين الإيقاعي عبر إدخال بعض مظاهر التفعيلة داخل القصيدة العمودية، سواء عبر كسر النسق، أو تطويل بعض الأشطر، أو تقطيع المعنى بين الأبيات، مما يخلق توترًا موسيقيًا داخليًا يعكس حالة الشهداء والرموز في لحظات الانكسار والاحتدام.
أما ناجي حرابة، فتميل غالبية نصوصه إلى شعر التفعيلة، بوصفه الإطار الإيقاعي الأكثر مرونة واستيعابًا لحالة الاحتجاج والمحاكمة والانفعال الثوري. تتيح له التفعيلة التقطيع الدرامي، وتدوير العبارة، وتوزيع الأحكام الشعرية كما لو كانت دفوعًا قضائية أو هتافات في محكمة ضمير، مما يُضفي على القصيدة توترًا سرديًا وإيقاعيًا متناميًا
المحور الخامس:الذوات والأدوات بين الإشادة والإدانة:
أن جواد جميل ركّز على الذوات المتفاعلة مع الحدث الكربلائي من الداخل (بُعدًا أخلاقيًا وروحيًا)، بينما ناجي حرابة سلَّط الضوء على الأدوات بوصفها شاهدة وجانية (بُعدًا قضائيًا وتوثيقيًا). هذا الفارق يجعل تجربة جميل أكثر شاعرية وفلسفة، وتجربة حرابة أكثر درامية ومحاكمة مباشرة.
ولكنّ كليهما يتّفقان في مبدأ:
أن الجريمة في كربلاء ليست حدثًا، بل بنية ممتدة من نفوس خائنة وأدوات مطاوعة، وأن كل دمٍ سال على الرمال كان شاهدًا على انكسار العدالة.
أولًا: استنطاق الذوات: من البعد النوراني إلى المجاز المظلم
في ديوان الحسين لغة ثانية، قام جواد جميل باستدعاء عشر ذوات بشرية مرتبطة بأحداث الطف، ووزّعها على أبعاد نفسية وفكرية تتأرجح بين النورانية والظلمة. هذا الاستدعاء لم يكن تكرارًا سرديًا تاريخيًا، بل محاولة لاستنطاق الضمائر المتكلّسة، عبر خطاب شعريّ يعيد صياغة المأساة في مشهد داخلي، تتصارع فيه الذوات مع نفسها قبل أن تُحاكم من الخارج.
• البعد الثابت (الأنصار): يُحتفى بهم بوصفهم نبوءة الضوء، “قطرة الدم أكثر بريقًا من قطرة الضوء”، وهنا تتحول دماؤهم إلى طاقة كونية تُضيء الصحراء وتوقظ الماء من أسره، في إشادة صوفية تكرّس الفداء المطلق.
• البعد المتغير (الحر الرياحي): يُرسم بوصفه ذاتًا تتطهر من خطيئة القرار المتأخر، وهو أكثر الأبعاد شاعريةً وصراعًا؛ “أنا بعضي يحاول الموتَ، والآخرُ يطوي غموضَهُ”، في إشارة إلى التمزّق الوجودي بين الشك واليقين، بين السقوط والخلاص.
• البعد الخائف (عبدالله الجعفي): يقف على تخوم العار، ويُدان بلغة ناعمة تخاطب الهارب في كل منا، فيرفُضه الحسين لأنه لم يختَر الدم، والقصيدة هنا تُدين الفعل وتفهم الدافع معًا.
• أما الأبعاد المظلمة (كشمر وسنان وعمر وحرملة وشبث ومالك وغيرهم)، فتمثل انتقال الشعر من البوح إلى الفضيحة، حيث تُسلخ الأقنعة وتتكشف البشاعة النفسية للقاتل:
• شمر “ارتداه الشيطان”،
• عمر يرى الورد دمًا متخثّرًا،
• حرملة هارب من عيون الأطفال
• وسنان يتحول جسده إلى عقرب، في مجاز سريالي يعكس التفسّخ النفسي ما بعد الجريمة.
كل ذاتٍ من هذه الذوات لم تكن تُحاكم من الخارج فقط، بل كانت تحاكم نفسها من الداخل، وهو ما أضفى على النص عمقًا سيكولوجيًا مكثفًا، يربط بين الجريمة والعقاب النفسي
ثانيًا: محاكمة الأدوات: التاريخ كقاضٍ والأسى كشاهد
ناجي حرابة في ديوان محاكمة الأسلحة الظالمة، استنطق أدوات القتل ذاتها، في محاكمة شعرية تُحيل الأشياء الجامدة إلى كائنات تنطق، وتُسأل، وتُواجه، ليصبح التاريخ هو القاضي، والشهداء شهودًا لا يغيبون.
• الحجر، السهم، الرمح، السيف، النار، الخيول، العمود، جامعة الحديد: كلها أدوات جُعلت في موضع الاتهام، واستُدرجت للبوح بجريمتها، ولكن دون أن تنال الغفران.
• السهم يحمل سجلًا من الجرائم: نحر الرضيع، إصابة عين العباس، اختراق فم الحسين، ما يجعله شاهدًا على تعدد الأذى وتنوع الرغبة في الإيذاء.
• السيف يوصف بأنه “مسكون بالحُلكة”، في استحضار شيطاني للحد القاطع الذي سلب الرؤوس، ولكنه لم يفلح في إسكات الوحي.
• النار تُحاكم بوصفها امتدادًا لحقد أمويّ أصيل، يتجلى في إحراق الخيام، في استحضار لامرأة “حمالة الحطب”، إشارة قرآنية تُرمّز بها النار بوصفها شريكًا شيطانيًا.
هنا لا تتم الإدانة بالشتيمة، بل بالاستفهام المفجوع:
“أأنت ستكسرُ غُصن الدعاء؟
وتسكت ترتيل عنابه
أتُحسَب أن الهدى ظامئٌ إن انكسرت خيرُ أكوابه؟”
كل أداة تُسأل عن دورها في خنق النور، وتُحمَّل مسؤولية جماعية وفردية في آنٍ، لتصبح أدوات القتل مرآة لانحطاط القيم البشرية التي سمحت لها بالتحرك.
المحور السادس: الصوت الجمعي بين الإنحناء المتفاقم والإحتجاج المتصاعِد.
يلاحظ في قسم المشاهد لدى جواد جميل، وتحديدًا في المشاهد الأربعة الأخيرة، حضور قصيدة نونية عمودية محنية الظهر، وقد وزِّعت على شكل مقاطع تُمهِّد لكل مشهد، أطلق عليها الشاعر اسم الكورس، بما يشبه كورالًا كونيًا يتردد صداه في خلفية النص، ويؤسس لمناخ رؤيوي موحّد يُنشد انحناء الوجود كله أمام شهيد لا يموت وهي تعكس انحناءً روحيًا متدرجًا، بصوت جمعي منكسر
وفي المقابل، نلاحظ لدى ناجي حرابة في قسم الشهود على الجريمة توزيع قصيدة فائية تفعيلية على لسان الشهود، حيث تتشظى بين المقاطع بصوت أدواتٍ ناطقة، تعكس احتجاجًا تصاعديًا ضد فداحة الجريمة.
وهكذا يتّضح أن كلًا من الشاعرين قد تعامل مع توزيع القصيدة داخل بنية الديوان بوصفه اختيارًا فنيًا واعيًا، يخدم رؤيته التعبيرية ويُعزّز البعد الدرامي والتأويلي للنص.
رؤية جواد جميل
نجد الكورس ليس مجرد صوت جماعي، بل قصيدة واحدة مكسّرة على أربعة مشاهد، كل مشهد فيه عنصر كوني ينكسر أمام الحسين في كل مقطع، تتغيّر طبيعة العنصر المنحني (رمل، ضوء، سيف، موت) ولكن السبب واحد الحسين هو الثابت الذي يُرجّ السماء والأرض بانحنائه.
وظيفة الكورس تتعدّى الرثاء فالحسين في هذه المقاطع لم يغب، بل كان مركز الجاذبية لكل صورة فلذا لا يكون الكورس بكاءً جمعيًا، بل قصيدة جماعية للوجود نفسه وهو يضعف أمام عدالة لم تُنصر، ونور لم يُطفأ إلا بالقهر.
يُعيد جواد جميل صياغة العلاقة بين الحسين والعناصر الوجودية:
الرمل، الضوء، السيف، والموت – جميعها تنحني ليس عن ضعف، بل عن خشية روحية أمام الشهيد الأعظم.
كل عنصر هنا يُمثّل زاوية من زوايا الانهيار الكوني أمام حدث الطف،
فالرمل لم يتحمل الجسد، والضوء فقد وجهته، والسيف تبرأ من ذاته، والموت انكسر في كفّ الحسين.
وفي مقاطع الكورس الأربعة الحسين عليه السلام حاضر في كل انحناءة:
الكورس الأول: ينحني الرمل:
يَنْحَني الرملُ، تلبسُ الأرضُ وجهاً
من رماد، وجُرحُها عُريانُ
فهي بعدَ الحسينِ ماتَ ليهبُ الخصب
فيها.. ومات حتّى الدخانُ!
الحسين هو الخصوبة التي ماتت، هو الحياة التي تُركت رمادًا، هو الدخان الذي لا يعلو بعده شيء.
فالرمل ينحني لأن الأرض لم تعُد تنبض بعد الحسين، والجرح بات مكشوفًا.
الكورس الثاني: ينحني الضوء:
يَنْحَني الضوءُ، لا جدائِلُهُ البيضُ
تشدُّ الرؤى ولا الألوانُ
ويمرُّ الحسينُ، قِنديلُهُ الدمعُ
وأدراجُ حلمِهِ الأحزانُ
الحسين هو القنديل الذي يضيء بالدمع، ولكن الضوء فقد وظيفته من بعده.
الضوء ينحني لأن الحسين أطفئ، وكأن الرؤيا انكفأت، والمقاييس انعدمت.
الكورس الثالث: ينحني السيف:
يَنْحَني السيفُ جثّةً يسخرُ التابوتُ
منها.. وتهزأُ الأكفانُ
كَرِهَتهُ الخيلُ الجريحةُ واشّاءَمَ
من غمدِهِ المدى الضمآنُ
وَبِجُرحِ الحسينِ نبعٌ يغنّي
وبرؤياهُ يختفي بركانُ
السيف صار جثة، مكروهًا حتى من الخيل، مسخًا تهزأ منه الأكفان.
السيف ينحني لأن الحسين غُدر به، فصار السلاح عارًا لا فخرًا.
الكورس الرابع: ينحني الموت: يَنْحَني الموتُ بينَ كفّيهِ مذعورًا
وتبكي الخيولُ والنيرانُ
غَيرَ أنَّ الحسينَ قلبٌ يرفُّ النهرُ
فيهِ، وينبضُ الريحانُ
الموت نفسه ارتعد في كفّ الحسين، والخيول تبكي، والنيران خائفة.
لا يموت الحسين، بل يُربك الموت، ويتحوّل إلى قلب ينبض فيه الريحان
رؤية ناجي حرابة
في نص شهود الجريمة يرتقي ناجي حرابة بمفهوم الصوت الجمعي من التعبير الوجداني إلى الاحتجاج القضائي الشعري،
فالأدوات التي استُعملت في واقعة الطف تتحوّل إلى شهود حيّة تنطق، وتُدين، وتكشف، لا بوصفها جمادًا بل بوصفها ضميرًا ناقدًا تتحوّل القصيدة إلى “محضر جلسة قضائية شعرية” والشاعر إلى كاتب ضبط وجداني.
الشهود على الجريمة التي استدعاهم ناجي:-
•الخاتم يحتج على النهب
•السيف يحتج على تحريف وظيفته
•الغمد يعترف أنه كتم كثيرًا ثم بُحّ صوته
•العمامة تُدين عرض الرأس الشريف
•القربة تبكي الظما الذي لم يُروَ
•البارية تسمع “ألم” من جسد متكسّر
وفي كلها يرتقي الصوت من التوصيف إلى التوبيخ بحيث تبدأ الشهادات بوصف ما جرى، ولكن سرعان ما تتحوّل إلى توبيخ للتاريخ:
• “محجر الله حزنًا” يدل على توسعة للصدمة إلى الأفق الإلهي
• “أعظم ما يوقد الدهر من لهب الألم” يدل على تصعيد للفظاعة
• “يتلو ألم” يدل على إغلاق الجريمة بآية من الروح
وقد جعل الشاعر الزمن المتكسر يعادل الماضي النازف في الحاضر
فكل أداة تتكلم بصيغة ما يزال يحدث
• “اجترّني ظامئًا”
• “طفت حول جبين الشهيد”
• “انهرت بين الصفوف”
أي أن ناجي حرابة لم يجعل الشهود يحكون قصة، بل يعيشونها الآن أمام القارئ.
ولو قاربنا بين الكورس والشهود لوجدنا الكورس عند جواد جميل كصوت وجداني جماعي ينحني دون أن يحتج، بينما الشهود عند ناجي حرابة كصوت موضوعي جماعي يُدين ويحتج،
والهدوء التأملي في الكورس (الانحناء)
• والتصعيد الحجاجي في الشهود (الاحتجاج).
المحور السابع: الخاتمة بين الإنفتاح الرؤيوي والإغلاق القضائي:
حين تُطوى صفحات الديوانين، لا يُطوى معهما وجدان القارئ، بل يخرج محمّلًا بأسئلة مفتوحة، ورؤى متشابكة، تنتمي إلى الشعر بقدر ما تنتمي إلى التأريخ. فالنهايات في تجربة جواد جميل وناجي حرابة ليست قفلاً بل انبثاقًا، وليست حكمًا نهائيًا بل دعوة لإعادة فتح الملفات الشعرية من جديد
ولذلك يقدّم جواد جميل خاتمة ذات إشراقة شعرية، إلا أنّها تتلبس برداء العجز، فبعد رحلة شعريّة غنية بالعاطفة المتوهجة، يصل إلى نبوءته الأخيرة مكسورًا بلغة لا تكفي، واعترافًا بجرح لم يُقرأ بعد:
“لغة واحدة
كيف تلغي المسافاتِ
بين التوهج واللحظة الباردة؟
لم تزل بين جرح الحسين
وبين قصائدنا
مدنٌ قانيةٌ
ولكي نقرأ الجرح
لا بد من لغةٍ ثانية!”
هنا يتقاطع الحنين مع الاعتراف بالفجوة، وكأنّ الشعر ـ على عظمته ـ لم يبلغ بعدُ الحسين، بل ظل يركض خلفه عبر “مدن قانية”.
فالخاتمة عند جواد تُعلِن الحاجة الدائمة للغة تتجاوز اللغة، ولرؤيا تتجاوز القصيدة
في المقابل، ناجي حرابة يسير في منحى موازٍ لكنه أكثر حزمًا، إذ يجعل من خاتمة ديوانه مشهدًا قضائيًا يُنتظر فيه القاضي ويقول:
“الأرضُ ذابلةٌ
وفي فمها الدُّعاءُ دمٌ
ومُقلتُها شُبُوحٌ
نحو فارسها المُغيّب
خلف سرداب الأصيل”
إنه لا يكتفي بتأريخ المذبحة، بل يُصدر أحكامًا مُعلّقة تنتظر التنفيذ، ويُخاطب الغائب المنتظر:
“من ذا سيرفعُ للعدالة أُسّها
ويُقيمُ محكمة الصّلاح
بطُول قامات النّخيل؟”
وفي ختام المحكمة الشعرية، لا يُغلق ناجي حرابة دفتره بنقطة صامتة، بل يفتحه على وجعٍ شخصي صاعد، حين يتمنى أن يكون هو ذاته الدرع الذي يُستسقى بالجراح، لذلك اعتلى صوته ملبيًا واعية الحسين (ع):
“ليتني درعُك يا مولاي
أستسقي الجراحات
وأذوي
وأُذرّى
حول (ميمُونك) أشلاء فداء”
هذه الأمنية ليست ترفًا وجدانيًا، بل امتدادًا طبيعيًا للموقف الشعري فمن وقف أمام المحكمة كشاعر، لم يعد يطيق البقاء في موقع المحاكمة، بل يتمنى أن يتحوّل إلى شاهد يُقتل، لا إلى شاهد يُدلي بشهادته فقط.
في ختام التجربتين، لا نخرج من القصائد كما دخلناها، بل نحمل معنا جراحًا مؤجّلة، وأسئلة مفتوحة، كأنّ القصيدة الحسينية لا تُغلق، بل تظل في حالة من التوتر الجمالي والوجداني.
بين الشاعر الذي يختم ديوانه بـ رؤيا تتجاوز اللحظة وتعلّق الأمل على الغد الموعود، والشاعر الآخر الذي يختم بـ محكمة شعرية مغلقة تقرأ وقائع الدم وتُدين المعتدين، تبرز النهاية بوصفها لحظة فكرية ودرامية كثيفة.