أقلام

بومةُ الطفّ

عماد آل عبيدان

كانت في السقف عينٌ تحدّق من الظلام.

كانت بومةً صغيرة، رماديةً كأوراق الجداول، لا تصيح، بل ترمقنا بصمت كأنها تقرأ فينا المآسي، وتحفظها في رقٍّ سريّ لا تراه العيون. لم تكن مثل الحمام في شرفات المدن، ولا مألوفة كعصافير المدارس والمزارع. كانت أختًا للوحشة، ابنةً للظِلال، حفيدةً لدمعةٍ لم تجف.

في طفولتي، لم أكن أفهم لماذا كانت أمّي تهمس كلّما ظهرت: “ناعية الحسين مرّت، أو سمعنا صوتها مصادفةً”واحيانًا نسمعها من ناحية نخل أم هلالي..

أردفت – أمي – دعاءً قصيرًا لا يحضره النسيان، وتبكي. لم أكن أعلم أن هذا الطائر المريب كان ذات ليلة، على صهوة كربلاء، يبكي وحده حين جفّت الحلوق، وانقطعت الريح، وأطفؤوا المصابيح ليُخفوا الجريمة.

في عاشوراء، كانت بومةٌ تظهر فوق نخلةٍ مقطوعة الرأس. تقول أمّهاتنا: هذه ناعيةُ آل البيت، “ناعية الحسين”، مذبوحة العينين، لا تسكن إلا في الخرائب التي تُنسى فيها المصائب. كانت تأتي، تندب بصوت لا يُسمع إلا لمن اعتاد سماع الأنين من قلبه.

ولكن البومة اختفت، كما اختفى الحياء من أعين بعض الناس، وكما بهت الدمع من خدّ امرأةٍ كانت تنوح في السطح كل ليلة عاشوراء دون أن يعرفها أحد.

أين ذهبت البومة؟

سؤال طرحته أمي رحمها الله، ثم سكتت.

قالت لي مرة: “حين لم تعد الأحزان تُستقبل بحفاوة، هجرت البومة البيوت.”

في زماننا، صارت الحمامات تُربّى في البيوت، تُصوّر بهواتف، وتُهادى وتُباع، بينما بومة الطفّ كانت تُلاحق وتُنفى وتُرمى بالحجارة إن اقتربت في ذلك الوقت.

غابت، لأن الحزن صار عيبًا.

غابت، لأن الحسين عند بعضهم “مناسبة” لا فاجعة، و”خطيبًا” لا دمًا، و”شعيرةً” لا شعورًا.

غابت، لأنهم طلبوا من النائحة أن تضحك، ومن البومة أن تُغرّد كعصفور. ربما جهًلا بها.

وفي تراث أهل البيت، ما يشبه هذه الغصة:

روى الشيخ المجلسي في بحار الأنوار عن الإمام الصادق عليه السلام، قوله عن البومة:

«أما إنها لم تزل تأوي العمران، فلما أن قُتل الحسين عليه السلام، آلت على نفسها أن لا تأوي العمران أبدًا، ولا تأوي إلا الخراب، فلا تزال نهارها صائمة حزينة حتى يجنّها الليل، فإذا جنّها الليل فلا تزال ترنّ على الحسين عليه السلام حتى تصبح».

(بحار الأنوار، ج٦١، ص٣٢٩)

فهذه ليست حكاية خرافية، بل طائرٌ شهد الطفّ، وفهمه على نحوٍ لم يدركه أكثر من بشر.

ومع هذا، لم تختفِ البومةُ كليًا.

ما تزال تمرُّ في ليالٍ بعيدة، تمرُّ من بين جدران غافلة، وتبحث عن طفلٍ يفتح عينيه في عتمة الغرفة ويشعر بشيءٍ ما على حافّة قلبه… شيء يشبه النداء، يشبه الحسين.

تقول الحكايات التي لا تُدوَّن:

في قريةٍ قريبة من هنا، جلس فتى اسمه عارف في سطح بيته ليلًا، متأملًا بقايا عاشوراء.

لا موكب، لا صوت، لا بكاء.

فجأة، رأى طيف بومة على السور، لا تصيح، ولكنها تحدّق.

في الليلة التالية، كانت أمّه قد غسلت ثياب عزاء الحسين، ورتّبت السواد، وأعدّت مجلسًا بسيطًا: شمعة، قراءة، ولطمة على الصدر.

رجعت البومة. جلست. ثم طارت.

ولكن عارف لم يعد كما كان. صار وجهه يحمل شيئًا من الهدوء المحترق.

البومة لا تأتي للخراب، بل تأتي حيث يُنسى الدم والمصاب.

هي شاهدة، مؤرخة، ليست طائرًا يُنذر بالخطر أو يحمل رسالة شؤم، أو يُتشاءم بوجوده، بل طائرًا للذاكرة،

طائر وفاءٍ يبكي الحسين عليه السلام كل ليلة.

إن كنت رأيتها يومًا، فلا تفرّ، ولا تضربها بالحجارة، بل اسأل نفسك:

ما الذي فيك جذب ناعية الحسين إليك؟

ألعلّ فيك شيئًا لم يمت بعد؟

في زماننا، كثر الصخب، قلّ الصمت.

كثر الحديث، ضاع المعنى.

حتى في عاشوراء، صارت بعض البلدان مجالسها مهرجانات، لا عزاء… والأصوات صدى لبعضها.

ولكن البومة، حين تأتي، لا تحتاج مكبر صوت، يكفيها أن تمرّ بجناحها على القلب، ليبدأ النشيج من الداخل.

سألت والدي رحمه الله مرّة، لمَ لم نبنِ للبومة عُشًّا؟

قال: “لأنها لا تحتاج مأوى، بل ذاكرة. لا تسكن البيوت، بل الأرواح التي لم تنكر عاشوراء.”

فهل نرغب حقًا في عودتها؟

هل نريد بومة الطفّ بيننا، أم نفضّل عليها صخبَ الرفوف الملونة والحمام المزخرف؟

هل لا زلنا نستحق أن تمرّ؟

أن ترمقنا بعينها المبلّلة، وتقول لنا دون صوت:

“أنتم أبناء كربلاء… أم أولاد الغفلة؟”

ربما البومة تنتظر منّا أن نرجع قبل أن تعود،

أن نبكي دون إعلان، ونرثي دون منصة،

أن نسمع في صمت الليل صوت الحسين وهو يقول:

“أما من ناصر؟”

فلا نصرخ، بل نقوم.

في النهاية، البومة ليست طائرًا عابرًا، ولا نذير شؤم كما يعتقد الغالبية.

إنها ناعية الحسين، كما نعتها الإمام الصادق عليه السلام.

إنها سؤالٌ معلّق في ظلمة السقف.

من يُجب، تعود.

ومن يغفل، تهاجر.

“بومةُ الطفّ”… لا تخرج إلا حين يستيقظ الإنسان فيك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى