أقلام

الهوس العالمي .. إلى أين يصل؟ (لابوبو) أنموذجًا

رباب حسين النمر

قد نستغرب أحيانًا من ازدحام الجماهير ازدحامًا شديدًا متهافتًا لدى محل تجاري فتح أبوابه للتو في منطقتنا، عبر إعلان جاذب ترويجًا لسلعه، ولجذب الزبائن عن طريق التخفيضات. وقد يصل ذلك الازدحام إلى تدافع شديد عبر البوابات مما يؤدي إلى تلفيات في الزجاج والمعروضات، وخسائر مادية بسبب التدافع والتهافت على شراء السلع والتبضع وكأنما السلع المعروضة مقدمة بالمجان! وقد نكون أكثر استغرابًا حين نعبر أحد الشوارع ونفاجأ بطابور طويل من البشر والسيارات يصطف طويلًا أمام نافذة مقهى وقد أكلت الشمس الحارقة وجوههم وجل يومهم من أجل شراء آخر إصدار (مق) ذا لون وردي تارة أو بنفسجي تارة أخرى. وقد يتجمهر الناس بشكل غير معقول في موقع ما لمقابلة نجم مشهور، أو فرقة مشهورة، فلماذا كل هذا التهافت والهوس العجيب؟ ولكن قف! هل تكون عدوى مستشرية تشبه المرض المنتقل عبر منصات التواصل الاجتماعي العالمية أو ما يسمى بالترندات؟

لأن هذا الهوس والتهافت ليس مقتصرًا على مزاج أهل منطقتك أو بلدك أو الإقليم الذي تعيش فيه! وإلا كيف لنا أن نفسر وقوف طوابير بشرية طويلة لساعات أمام متاجر (لابوبو) في أنحاء متفرقة من العالم، وانتظارهم لضمان وصول دورهم في اقتنائها، ودفع بعضهم مبالغ خيالية لا يصدقها عقل في مزادات لبيعها، حتى غدت أسطورة وحلم يتمنى أطفال العالم في كل بقاع المعمورة اقتنائها!!! لدرجة أن الإقبال الهائل على( لابوبو) تسبب بفوضى في بريطانيا -على سبيل المثال- فأوقفت بيعها في بعض المتاجر بسبب التدافع.

بالرغم من أن (لابوبو) لا تعدو كونها مجرد دمية محشوة بالقطن، أقرب ما تكون إلى القبح ولا تتسم بأي نوع من الجمال، واسعة العينين، تملك فمًا كبيرًا مفتوحًا بابتسامة خبيثة، وبه ثمانية أنياب بارزة! وتأتي في عدة أصدارات وألوان!

ويبلغ عمر (لابوبو) 10 سنوات، مذ اخترعها عام 2015 فنان صيني يدعى كاسينغ لونغ ضمن سلسلة وحوش أخرى استوحاها من الأساطير الاسكندنافية، وضمت المجموعة أشكالًا متنوعة من الشخصيات الغريبة، منها زيمومو، وتيكوكو، وسبوكي، وباتو، ولابوبو. وطوال تلك السنوات العشر كانت (لابوبو) وأخواتها دمى مثل غيرها من الدمى سعرًا وإقبالًا لا يستحقا الذكر. وفي نقطة تحول عجيبة غزت (لابوبو) وسائل التواصل الاجتماعي العالمية، وتغيّر سعرها مما يقارب 12 دولارًا حتى بلغ 2000 دولار للنادرة منها وضمن مزادات.

ما هي نقطة التحول؟

أبرم اتفاق تجاري عام 2019 أبرز هذه الدمية، حيث تعاونت شركة الألعاب الصينية “بوب مارت” مع لونغ لإطلاق أول مجموعة من ألعاب (لابوبو)، وبدأت الشركة المذكورة بيع تلك الدمى في عبوات مغلقة لا تكشف للمشتري أي تصميم أو لون سيحصل عليه حتى لحظة فتحها تمامًا مثل بيضة الحظ، وقد رفع عنصر المفاجأة سقوف التوقعات ومنسوب التشويق وضاعف الحماسة، وقد عدها المسوقون “حركة تسويقية ذكية”.

وفي خطوة تالية تحوّلت دمى “لابوبو” من مجسمات فنية مصغرة، إلى ميداليات اكتسحت سوق حقائب اليد النسائية. ورغم ذلك كله بقيت شعبيتها محدودة.

ولكن خلال الأشهر الأخيرة من عام ٢٠٢٥م، تحولت (لابوبو) من دمية خاملة إلى شخصية هامة جدًا تهافت عليها البشر بسبب ترويج بعض النجمات العالميات لها في وسائل التواصل الاجتماعي ولا سيما تيك توك، ونشرن صورًا لهن برفقة الدمية (لابوبو) حتى وصل الأمر لنجمات الوطن العربي، وهذا ما ساهم في رفع قيمتها الاقتصادية رفعًا أسطوريًّا خياليًّا، حيث تجاوزت إيرادات الشركة المذكورة مليارًا و800 مليون دولار عام 2024، منها 410 ملايين دولار من مبيعات لابوبو وحدها، بنمو بلغ 900% في السوق الأميركية، حتى قررت الشركة التوسع في مدن مثل باريس ولوس أنجلوس. وبيعت واحدة من دمى لابوبو في مزاد علني بهونغ كونغ بأكثر من 170,000 دولار. ومع هذا السعار العجيب ربما، بل أجزم بأن مقتني «لابوبو» لا يعلمون أنها دمية مستوحاة من تراث وتاريخ شعوب شمال أوروبا الذين كانوا يعبدون الشياطين أو الأشباح، وكان «لابوبو» يجسد شخصية إله صغير في صورة طفل يحب الاستمتاع، ولكنهم على أي حال يهوون امتلاكها، والظهور بها في وسائل التواصل الاجتماعي ليحصلوا على عدد أكبر من المشاهدات والمتابعين، وربما يجعلهم الظهور معها من المشاهير في عالم الصيحات. ويرى علماء نفس الطفل والاجتماع أن حالة «لابوبو» تنذر بأن هناك العديد من التحديات والمخاطر التي تواجه الأجيال القادمة، من أهمها أن هناك حالة من ضعف المناعة الثقافية والانسياق وراء «الموضات العالمية»، والتعلق بها دون فهمها، ودون معرفة خلفياتها، بل لمجرد التقليد والتبعية.

وهذا أمر إذا تعود الأطفال والشباب عليه فإنه يشير إلى حالة من التابعية الشديدة للخارج، قد تجعلهم يقلدون الموضات حتى وإن كانت خطيرة على صحتهم، أو على مستقبلهم أو على معتقداتهم وأفكارهم.

ولذلك لا بد من تقديم البديل المناسب من مبدعينا، ودعم الخصوصية الثقافية، والهوية الثقافية الوطنية وتقويتهما في نفوس النشء من خلال وسائل التعليم، والإعلام، والخطاب الديني للحفاظ على شبابنا وأطفالنا وحمايتهم من الانسياق وراء موضات عالمية؛ قد تكون في هذه الحالة لعبة لا تنفع ولا تضر وإن كانت مكلفة ماليًّا، ولكن قد تكون في حالات أخرى مهددة لصحتهم، أو لمستقبلهم، أو لأمن أوطانهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى