كربلاء: حين سقطت الأقنعة وتكلمت الأخلاق

أحمد الطويل
هذه المقالة هي مما فهمتُ من المجلس الحسيني الذي أقيم في مجلس بوحليقة بسيهات، وكان الخطيب فيه سماحة الشيخ محمد السمين (حفظه الله) بعد صلاة الظهرين من يوم الأحد الثالث من شهر محرم الحرام لعام ١٤٤٧ للهجرة.
مقدمة:
في لحظة عاشورائية لا تعرف الحياد، تساقطت الأقنعة التي ظنّها أصحابها راسخة، وتجلّى ميزان الأخلاق كما لم يتجلَّ من قبل. لم تكن كربلاء صراعًا سياسيًا فقط، بل كانت مواجهة مكشوفة بين الضمير والزيف… في هذا المقال، نكشف كيف تحوّلت كربلاء إلى ساحة فضح للنفوس، ومحكّ للأخلاق، ومختبر حقيقي للإنسان من الداخل.
في لحظات المفترق المصيري، عندما تتهاوى كل التبريرات، ويضيق الأفق، وتنقطع السبل الرمادية، يتجلّى في الوجود مبدأ لا يخطئ: الحق والباطل لا يجتمعان. هذه اللحظات ليست مجرد لحظات تاريخية تُذكر، بل محكّات أخلاقية تفصل الإنسان عن البهيمية، وتُسقط الأقنعة التي طالما التصقت بالوجوه.
كربلاء لم تكن حدثًا عاديًّا… كانت زلزالاً كشف عن العمق الأخلاقي الحقيقي للنفوس. فالمعركة لم تكن فقط بين الإمام الحسين ويزيد، بل كانت في الداخل، في داخل كل من كتب للإمام ثم خذله. هناك، في كهوف النفس، اختبأت الرذائل سنينًا، حتى جاءت عاشوراء فعرّت الجميع!
حين تموت الأخلاق النظرية على قارعة الطريق
كثيرةٌ هي الكتب التي تحدثت عن الأخلاق. أسماء ضخمة تتزين بها المكتبات: جامع السعادات، مصباح الشريعة، تذكرة المتقين. ولكن لماذا تتهاوى الأخلاق حين يُرفع شعار “هيهات منّا الذلة”؟ لماذا من كتبوا للإمام الحسين انقلبوا فجأة، وتحوّلوا إلى وحوش تقتل سبط النبي، وتستبيح خيامه؟
الجواب الموجع هو أن الأخلاق النظرية لا تنفع وحدها! من لم يُربّ نفسه على الصدق الداخلي، على الصراع مع “أنا” المتعالية، من لم يواجه غيبته، نفاقه، حسده، كبره، وغروره، سيقع لا محالة في وحل الباطل عند أول امتحان.
كربلاء حيث لا حياد، ولا تلوُّن
في كربلاء لم يكن هناك مكان للمتفرجين. إما أن تكون مع الحسين عليه السلام، أو مع يزيد. لا مكان للرمادية، ولا مجال للحياد المتواطئ. الذين تخاذلوا لم يفعلوا ذلك عن جهل، بل عن هزيمة أخلاقية داخلية. عمر بن سعد لم يكن غافلًا عن مقام الحسين، ولكنه كان أسير طمعه. قدّم مُلك الري على جنةٍ يعرف طريقها، لكونه لا يملك شجاعة السير إليه.
شبث بن ربعي كتب للإمام الحسين مستغيثًا، ثم صار قائدًا في جيش ابن زياد. الحُجّار بن أبجر فعل المثل، وكأن الحسين الذي بايعوه أمس لم يكن سوى سراب. أيّ انفصامٍ هذا؟ أي نفاق؟ إنها لحظة انكشاف النفس أمام مرآة الحقيقة… من لم يكن حُسينيًا من الداخل، فلا ينفعه أن يُنشد اسمه على الشفاه.
الأخلاق المعيارية المرآة التي تفضح الذات
هنا، تبرز أهمية الأخلاق المعيارية. ليس المقصود بها نصائح عامة أو دروسًا تربوية مبعثرة. بل هي علمٌ يُقيّم وضعك الأخلاقي الحقيقي. أين تقف؟ هل غيبتك عابرة أم طبع؟ هل كرمك لله أم للناس؟ هل صبرك قناع أم حقيقة؟
هذا العلم يُشخّص النفس تشخيصًا دقيقًا، كما قال الفيض الكاشاني. يكشفك لنفسك دون مجاملة. وقد يأتي هذا الكشف عبر صديق صدوق لا يخشى في الله لوم لائم، أو عبر خصم يُبغضك ولكنه يراك كما لا يراك محبوك، أو من خلال تعاملاتك اليومية التي تُظهِر غضبك، ترددك، نفاقك، حُبك للرياء، وأحيانًا من خلال أصحاب البصيرة من أولياء الله، وهم قلة نادرة كأمثال الشيخ بهجت، الذين لا يتحدثون كثيرًا، ولكن أنفاسهم تتحدث بالحق.
لماذا لا نرى أنفسنا كما هي؟
لأننا نحب أنفسنا حبًا مَرَضيًا! كل إنسان يرى نفسه الأفضل، الأطهر، الأنقى، ولو كان غارقًا في الغيبة والنميمة والعجب. ومن هنا كانت أعظم عبادة هي “معرفة النفس”. الإمام الصادق يقول: “ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كل يوم.” ومن لم يحاسب نفسه وقع في خداع “الأنا”، تلك التي تُبرّر كل خطأ، وتمنح نفسها حق السيطرة والتحكم حتى وإن كانت تمشي نحو الهاوية.
ولذلك، لا يُعوّل على الناس في تشخيص النفس، لأن الناس يجامِلون، أو يكرهون، والحق لا يُعرف بالمجاملات ولا بالحسد. الطريق الوحيد هو محاسبة الذات عبر ميزان أخلاقي عادل، تُعرض فيه فضائلك ورذائلك أمام عينيك دون تجميل.
الاختبار الأعظم عاشوراء
كربلاء كانت لحظة الحقيقة. لا مكان فيها للمراء. لا مجال فيها للهروب. كل نفسٍ وقفت عارية أمام اختبار “أمعَ الحسين أم مع يزيد؟” الذين سقطوا لم يسقطوا لأنهم لم يعرفوا الحسين، بل لأنهم لم يعرفوا أنفسهم. كانت فيهم رذائل متجذرة لم يعملوا على اقتلاعها. والذين ثبتوا لم يكونوا معصومين، ولكنهم خاضوا معارك داخلية مع أنفسهم قبل أن يخوضوا المعركة في صحراء كربلاء.
أمثال حبيب بن مظاهر، وزهير بن القين، والحر بن يزيد الرياحي، انتصروا لأنهم واجهوا أنفسهم، وخلعوا أردية الزيف، ولم يجعلوا من الدنيا معيارًا. أما أولئك الثلاثون الذين أرسلهم والي مكة لقتل الحسين حتى لو كان متعلقًا بأستار الكعبة، فقد كانوا جثثًا تمشي، لا تملك بوصلة، ولا تعرف إنسانية!
الخلاصة:
كربلاء فضحت الجميع، لأنها كشفت من تربّى على الأخلاق المعيارية ومن لا يزال أسير الشعارات. ليست العِبرة أن تقول: “يا ليتنا كنا معكم”، بل أن تسأل نفسك: هل كنت سأثبت حقًا؟ هل فضائلي حقيقية أم سطحية؟ هل أملك شجاعة المواجهة أم أهرب خلف أقنعة التديّن؟
المعيار الأخلاقي الواقعي هو السبيل الوحيد لنعرف أنفسنا قبل أن نُفاجأ بها في لحظة حاسمة. ولنتذكّر أن من بايع الحسين ثم قتله، لم يفعل ذلك في غفلة، بل لأن الحق لم يتجذر في قلبه، والأخلاق لم تكن راسخة في ضميره.
اللهم أرِنا الحق حقًا فنتبعه، وأرِنا الباطل باطلًا فنجتنبه، وخلِّص نفوسنا من الرذائل، وزيِّنها بفضائل الأخلاق يا أرحم الراحمين.
وهذه المقالة كما ذكرت، هي خلاصة لما فهمته من المجلس الحسيني الذي أقيم في مجلس بوحليقة بسيهات، بعد صلاة الظهرين من يوم الأحد، الثالث من محرم الحرام لعام ١٤٤٧ للهجرة، وكان الخطيب فيه سماحة الشيخ محمد السمين (حفظه الله).