أقلام

الشعائر الحسينية نبضُ الأنبياء وصوتُ الفطرة من آدم إلى كربلاء

أحمد الطويل

المقالة التي بين يديك هي خلاصة ما استلهمتُه من المجلس الحسيني الذي أُقيم في مسجد الخضر بتاروت بعد صلاة الظهرين، بصوت الخطيب الملهِم سماحة الشيخ أحمد الفردان، يوم السبت الثاني من شهر محرم الحرام لعام 1447 للهجرة.

مقدمة:

صيحة من كربلاء لا تزال تُرجّ السماء.

في لحظةٍ تهدأ فيها نبضات الأرض، تهتف كربلاء بنداءٍ لا يموت: “هل من ناصرٍ ينصرني؟”

ذاك الصوت لم يكن مجرد استغاثة من إمامٍ محاصر، بل نداءٌ أزليّ يُخاطب الفطرة، ويوقظ ضمائر الأنبياء قبل أتباعهم. إنه صوت الحسين، الإنسان الكامل، والمشروع الإلهيّ الذي مزّقته السيوف ليبقى الدين حيًّا.

فهل الشعائر التي نُحييها اليوم، من بكاءٍ وندبةٍ ولطمٍ ومواساة، وليدة العاطفة؟ أم أنها امتدادٌ لشريعةٍ خُطّت قبل كربلاء بقرون؟

الجواب لا يحتمل الشك: إنها من سنن الأنبياء، بل من أسرار النبوّة نفسها.

أصالة الشعائر الحسينية في ضوء القرآن والعقل والرواية

حين قال الله تعالى: ﴿ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32]. كان يرسم لنا خريطة للوصول إليه عبر تعظيم رموزه، وبالأخص تلك التي تتجلى فيها أعظم تضحية في تاريخ البشرية: تضحية الحسين عليه السلام.

الشعائر الحسينية ليست تقاليدًا شعبية، بل ممارسة روحية أصيلة، يضرب جذورها في عمق الرسالات السماوية.

آدم عليه السلام أول دمعة حُرّة على الحسين

جاء في بحار الأنوار عن الإمام الصادق عليه السلام: أن الله تعالى علّم آدم أسماء محمد وآل محمد، فلما وصل إلى اسم الحسين، اختنق بالبكاء وسأل: “يا رب، ما بال هذا الاسم يهيّج حزني؟”

فأجابه جبرائيل أن الحسين يُذبح عطشانًا، فبكى آدم بكاءً مُرًّا.

هكذا، سُنَّت أول شعيرة: البكاء على الحسين على لسان أول نبي وأول إنسان.

إبراهيم عليه السلام جزعٌ فاق جزعه على إسماعيل

في رواية عن الإمام الرضا عليه السلام، لما أمر الله نبيّه إبراهيم بذبح ابنه إسماعيل، قُدِّم له مشهدٌ رمزيّ لمقتل الحسين، فاهتزّ قلبه وجزع جزعًا عظيمًا.

فقال له الرب: “يا إبراهيم، لقد جزعت على ذبح ولدك بيدك، فكيف بمن يُذبح ولدُه بلا معين، عطشانًا، وحيدًا؟”

لقد وُضع الحسين عليه السلام في ميزان الامتحان الإبراهيمي، وتفجّرت منه شعيرة الجزع على المظلوم.

زكريا عليه السلام أوّل نادب للمصيبة الحسينية

في كتاب كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق، يُنقل أن نبي الله زكريا سأل الله عن سرّ حبّ الملائكة لاسم “الحسين”، فأخبره تعالى بمصيبته، فصرخ زكريا:

“إلهي، أتُفجع فاطمة بولدها؟!”

ثم لبس السواد، واعتزل الناس، وندب الحسين أربعين يومًا.

لقد كانت الندبة شعيرةً نبويّة قبل أن تصبح حسينية.

المواساة نبيٌ سلخوه حيًّا فصاح: لي أسوة بالحسين

يروي الشيخ المفيد في الإرشاد عن أحد أنبياء بني إسرائيل واسمه إسماعيل بن حزقيل، أن قومه سلخوه حيًّا، فلما اشتد به العذاب، قال: “لي أسوة بما يُصنع بالحسين!”

لقد حوّل ألمه إلى مواساة، ونزفه إلى ولاءٍ مسبق لدم الحسين.

المواساة ليست أن تتألم مثله بل أن تجعل وجعك امتدادًا لوجعه.

المنشأ التكويني للشعائر العَبرة خُلقت معنا

قال الإمام الصادق (ع):

“إن الحسين قُتل لكي تستقر العَبرة في عيون المؤمنين”.

هذا ليس مجازًا بل واقعًا تكوينيًا.

فالمحبون لا يبكون الحسين لأنهم عاطفيون، بل لأنهم من طينته، كما في الحديث: “شيعتنا خُلقوا من فاضل طينتنا” (الكافي، ج1).

فحين تبكي على الحسين، أنت لا تواسيه فقط، بل تُعرّف نفسك: من أنت؟ ومن أين جئت؟

المنشأ التشريعي الشعائر أوامر من السماء ومفاتيح للجنة

الشعائر الحسينية ليست مجرّد عاطفة، بل شريعةٌ تُكتب في صحائف المؤمنين.

في مستدرك الوسائل (ج10، ص319)، نُقل عن نبي الله موسى عليه السلام أنه سأل ربه: “بِمَ فضّلتَ أمة محمد على غيرها؟”

فقال الله تعالى: “بعشر خصال: الصلاة، الزكاة، الصيام، الحج، الجهاد، الجمعة، الجماعة، القرآن، العلم، والعاشوراء.”

فقال موسى: “وما العاشوراء؟”

فقال الله: “هو البكاء والتباكي على سبط محمد، والعزاء على مصيبته.”

ثم يذكر الأثر العظيم لهذه الشعيرة: “ما من عبدٍ بكى على الحسين، أو تباكى، إلا جعلت الجنة مأواه، وغفرت له ذنوبه، وكتبت له بكل دمعة أجر مائة شهيد.”

فكيف لا نعظّم شعيرة أمر بها الله، وبكى لأجلها موسى، وأوصى بها الأنبياء؟

الإعداد النبوي لثورة كربلاء

لم تكن كربلاء حدثًا مفاجئًا، بل تتويجًا لمشروع الأنبياء.

يروي ابن قولويه في كامل الزيارات، أن النبي عيسى عليه السلام أوصى قومه قائلاً: “يا بني إسرائيل، العنوا قاتلي الحسين، فإنهم أشقى خلق الله”

ولم تمر القرون حتى جاء وهب النصراني، يسمع بقصة الحسين، فيترك دينه، ويُسلم، ويُستشهد تحت راية الحسين.

كل نبي كان يمهّد لطريق كربلاء فكيف لا تكون شعائرها واجبة الحب والتعظيم؟

الرسول الأعظم دموعه كانت تَقطُر دمًا

في زيارة الناحية المقدسة، يخاطب الإمام المهدي (عج) جدّه الحسين: “فلأندبنك صباحاً ومساءً، ولأبكينّ عليك بدل الدموع دمًا”. ويُروى أن النبي الأكرم (ص) حمل تراب كربلاء، وشمّه، وبكى حتى كادت نفسه تفيض، وهو يقول: “ريح كربٍ وبلاء”.

فما بالك بمن بكى عليه خاتم الأنبياء، وبكت له الزهراء، وارتجّ له عرش الجبّار؟

دعبل الخزاعي الشاعر الذي أطلق لدمعه لسانًا

في حضرة الإمام الرضا (ع)، قال دعبل قصيدته الخالدة، فزلزل وجدان أهل البيت:

أفاطم لو خِلْتِ الحسينَ مُجَدَّلًا

وقد مات عطشانًا بشطِّ فُراتِ

إذن للطمتِ الخدَّ فاطمُ عندهُ

وأجريتِ دمعَ العينِ في الوجنات

لقد سجل الشعر ما عجزت عنه السيوف: أن الشعائر دمعة مقدسة، خالدة، إلهية المصدر.

الخلاصة:

الشعائر الحسينية ليست ردّ فعل عاطفي بعد كربلاء، بل امتدادٌ رساليٌّ لأصوات الأنبياء وبكاء الملائكة وندبة الأولياء.

لقد سُنّت على لسان آدم، وجزع لها إبراهيم، وندبها زكريا، وواساها أنبياء بني إسرائيل، حتى بلغت ذروتها في دموع رسول الله (ص) وصرخة المهدي (عج).

فمن عظّمها، فقد عظّم شعائر الله، ومن بكى لأجلها، فقد صافح فطرة الله التي فطر الناس عليها.

ومن سار على دربها، فقد سار في ظل راية الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة.

اللهم ارزقنا دمعةً صادقة على الحسين، ومقامًا في ركب خدامه لا يزول.

ختامًا هذه المقالة هي خلاصة ما فهمتُه واستنرته من المجلس الحسيني المبارك الذي أُقيم بعد صلاة الظهرين في مسجد الخضر بتاروت، بصوت الخطيب الجليل سماحة الشيخ أحمد الفردان (حفظه الله)، في يوم السبت الثاني من شهر محرم الحرام لعام 1447 للهجرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى