أقلام

قراءة في (الانثروبولوجيا الاجتماعية الثقافية لمجتمع الكوفة عند الإمام الحسين ع)

علي الوباري

في حادثة دينية وتاريخية تتحرك مع تقدم الزمن وتتجاوز جغرافية أحداثها، وتعبر بشخصياتها ورموزها الحدود وبلغات مختلفة في أكبر حشد بشري سنويًّا (موسم عاشوراء) تستحق أن تقرأ من قبل المختصين وبعلوم حديثة لم تعرف حين وقعوها وبمصطلحات حديثة تلائم المتغيرات الثقافية العصرية، مثل علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الانثروبولجيا وعلم اللسانيات، إن هذه العلوم الإنسانية تساعد في فهم الخلفيات التاريخية والدينية والاجتماعية، وتكشف عن قانون التراكم الثقافي والاجتماعي لما حدث في أعظم فاجعة استشهادية لسبط رسول الله صلى عليه وآله وسلم الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته.

قارئ الفاجعة الحزينة بكربلاء في عصرنا الحديث متعلم أكاديميًّا ومحاط معرفيًّا بما تنتجه الجامعات ومراكز البحوث الحالية، وعلماء تربية وعلم نفس واجتماع، ومؤرخين لهم مصطلحاتهم ومفاهيمهم التي تقرأ الحدث من خلال مفاتيح معرفية، فينظرون للحادثة من وجهة نظر مختلفة بل يستنتجون باختصاصاتهم ما لا يستطيع أن يستنتجه الموالي والمهتم الذي يكرر قراءتها بخطاب واحد أو من زاوية الولاء والحزن والدموع والعواطف والمشاعر والرواية التي لا ينكر دورها في تثبيتها ورسوخها في القلوب والعقول.

حين يستخدم الباحث أدوات معرفية وبحثية اختصاصية يستطيع أن يسبر أغوار هذه المصيبة الحزينة بقراءة فاحصة فيرى ما لا يراه الذي يحييها بزاوية الإحياء الروائي فقط حتى لو كانت للعظة والعبرة، فكل صاحب اختصاص علمي وفكري يحلل النهضة الحسينية من منظاره المعرفي مستخدمًا مجهر معرفي يربطها مع أحداث تاريخية معاصرة، ويحلل الواقعة من عدة زوايا وبوجهات نظر يجيدها ويخرج من رحمها العبر والمواعظ والدروس المستخلصة حين تحليلها.

إن ما ورد في خطب الامام الحسين عليه السلام في طريقة إلى كربلاء -دون شك- حتى استشهاده يوم العاشر فيها من الجمل والعبارات والحكم التي تحدد معالم المجتمع الكوفي، وخصائص الأفراد والنظام الاجتماعي التي أدت إلى محاربته ومآلات الواقع الاجتماعي ما بعد عاشوراء حين يتجاهل تعليمات وإرشادات القيادة، ينتشر الفساد والانحراف الأخلاقي كما اثبتتها التجارب، ولكن القارئ المتعلم أكاديميًّا والمتزود بمعارف العلوم الحديثة فهذه الشريحة التي تتحاور وتناقش بمصطلحات ومفاهيم الأبحاث والدراسات الإنسانية الحديثة تكون أكثر تفاعلًا واستجابة للخطاب الثقافي الذي يحمل مفردات تهمهم ويستوعبونها في فهم خطاب المنبر الحسيني سواء كان الخطاب شفاهيًّا أو مكتوبًا.

نجد محاولة قراءة مصيبة كربلاء من علم حديث وهو علم الانثروبولوجيا أو الإناسة في كتاب (الانثروبولوجيا الاجتماعية الثقافية لمجتمع الكوفة عند الإمام الحسين عليه السلام) تأليف السيد نبيل الحسني باحث ومحقق في التراث الإسلامي، ويقع الكتاب في ٢٠٨ صفحة، بطبعته الأولى عام ٢٠٠٩ PDF، ويتضمن دراسة إسلامية في على الإناسة المعاصر.

تعريف الإناسة (علم الانثروبولوجيا) حسب الكتاب “يتبنى دراسة جميع الظواهر والآثار التي ترسم حركة الإنسان وطريقة تعايشه مع أبناء جنسه، وفهم جميع الوسائل التي تدل على أنواع هذا التعايش”.

أي مجتمع هو منتج تراكمه التاريخي، ومدخلاته التربوية الثقافية، واسلوب حاكميته. لأن سلوك المجتمع لا تتجاوز الأفكار والنظريات التربوية والمفاهيم الاجتماعية المنقولة له، فأفراد هذا المجتمع أبناء هذه الثقافة خصوصًا إذا كانت موجهه بمنهج وأهداف معدة.

يكتب المؤلف السيد نبيل الحسني في مقدمة كتابه “أن الثقافة التي نشأ عليها الإنسان في الكوفة لو نقلت إلى المدينة المنورة، أو مكة المشرفة، لقتل الحسين بن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأشد مما قتل في كربلاء” بذلك الوقت، يعني تربية المجتمع وطريقة إدارته تخلص إلى ما انتهى له مجتمع الكوفة.

والكتاب يتكون من ثلاثة فصول:

الفصل الأول : بعنوان مفهوم الانثروبولوجيا أو الإناسة وبه عدة مباحث. ويتحدث هذا الفصل عن نظريات في الانثروبولوجيا مثل النظرية الانقسامية وطورها إيفانز برتشارد على مجتمع النوير في جنوب السودان، وتتكون هذه المجتمعات القبلية من بناء قبلي منقسم على نفسه عاجز عن تشكيل مجتمعات مندمجة قرابية، تكون لكل مجموعة ثقافة مستقلة بذاتها تؤكد على القرابة وترفض الأغراب والأباعد، الذي يشبه مجتمع الكوفة حين أفرغ من مجتمعه الأصلي.

وتضمن الفصل الأول أيضًا الانثروبولوجيا الاجتماعية الثقافية التي تحلل السلوك الاجتماعي والثقافي لمجتمع الكوفة، وتصف ثقافتهم وطبيعة المجتمع، وكانت سلوكيات المجتمع نتيجة ثقافتهم المقصودة وعاداتهم وتقاليدهم ومنظومة أفكارهم التي تربوا عليها من خلال بنية فكرية محددة تؤدي إلى نتيجة شبه معروفة سلفًا حسب ما خلص إليه الكتاب.

تشكل هذه المجموعات ثقافة متكونة من أفكار مشتركة ومفاهيم وقوانين تمارس سلوكًا تبعًا لهذه الثقافة التي لا تهدف إلى البناء الاجتماعي المتطور وتفتقر إلى أهداف تنموية تنهض بالمجتمع.

الفصل الثاني: بعنوان (مجموعة العوامل الانثروبولوجية في تكون المجتمع الكوفي) وتضمن هذا الفصل عدة مباحث، منها تأسيس الكوفة حاضنة للجند والمقاتلة العرب والأجانب، فهذه الطبقة الاجتماعية لم تعتد حياة الترف أو الاهتمام بتنمية ثرواتهم وتحسين معيشتهم علميًّا واقتصاديًّا، فكانت حياة غالبية أفرادها عسكرية، يسمعون الأوامر ويبدون الطاعة العمياء والتنفيذ دون سؤال.

وتضمن مبحث ثانٍ بالفصل الثاني وهو نبذة عن التنوع العشائري وتأسيس ثقافة مجتمع كوفي عسكري، وتم تقسيم مجتمع الكوفة إلى عشائر وقبائل برؤساء عليهم أن يتبعوا أوامرهم. وأشار في هذا الفصل إلى العنصر الاغترابي أي الغرباء في المجتمع العربي في تكوين ثقافة خاصة بهم وهم لا يهتمون إلا بشؤونهم الخاصة بحيث يبقى أسير ثقافة وإرث للأصل والجذر الجغرافي.

الفصل الثالث: بعنوان تصدع المجتمع الكوفي، ويعد هذا الفصل خلاصة ما قدمه المؤلف في الفصلين السابقين بتفصيل، وبحث أسباب عدم انسجام مجتمع الكوفة وتخلخل بناء نسيجه الذي أدى إلى التفكك والتصدع والانهيار وبالتالي يسهل اختراقه وتوجيهه إلى حيث ما يراد حسب أسس الانثروبولوجيا. ويستدل الكاتب بأقوال المفكر فرانسيس فوكوياما بنظريته التصدع العظيم “إن الإنسان بطبيعته مخلوق اجتماعي مترابط تقوده غريزته ودوافعه الأساسية إلى خلق وإيجاد قواعد أخلاقية تجمع الناس مع بعضهم البعض في مجموعات اجتماعية” ، وإن كان هناك تحفظ على الاستشهاد بأقواله ونظرياته التي اعتقد فيها أن نهاية التاريخ ينتهي بالثقافة الغربية وعولمة الديمقراطية الليبرالية للبشرية. وهناك آراء لعلماء أكثر وضوحًا وواقعية، ويكتب الباحث الحسني “أن الانثروبولوجيا الاجتماعية الثقافية لمجتمع الكوفة قد مرت بمرحلة من التصدع وإعادة البناء، وأن هذه المرحلة تنص على عدة قانونين، منها قانون دعاء الإمام الحسين عليه السلام على مقاتلي الكوفة الذين قاتلوه، وقانون الانصهار البنيوي وتصدع مجتمع الكوفة ببواعث نفسية للتخلي عن أهل البيت عليهم السلام، والتلهف على الدنيا والفساد في الأرض، وربط هذا المعنى بمقطع من خطبة الإمام الحسين عليه السلام ” فكنتم أخبث ثمر شجر للناظر وأكلة للغاصب”، كما يضيف الكاتب مكونات الانثروبولوجيا الاجتماعية الثقافية لمجتمع الكوفة وهي تصنيف الذات والمقصود بها الأفراد يميلون إلى بعضهم البعض، وينتمون إلى جماعة حين توحدهم الخصائص المتشابهه، والتنشئة الاجتماعية التي تتوارث من جيل إلى آخر نتيجة التراكم والتوجيه المقصود، والعنصر الثالث التثاقف حين الاحتكاك والاتصال الاجتماعي ونقل الأفكار في الحوارات.

وفي هذا الفصل الثالث يتحدث عن الإعلام المخطط والموجهه للتغيير وصناعة الرمز الفاعل بالمجتمع، واستخدام أساليب ضاغطة مثل الترغيب والترهيب في مجتمع غير متجانس أو كما يعرف التثاقف هو تأثر جماعة أقل تعليمًا بجماعة أكثر تطورًا وعلمًا، وحتى تتم عمليات التغيير الثقافي والاجتماعي في المجتمع من وجهة نظر علماء الانثروبولوجيا، لا أن تكون عوامل إيجادية توجد أسباب التغيير وعوامل ديمومية، ولأن مجتمع الكوفة في تلك الفترة تجمع عشائر وقبائل من مختلف مواقع جغرافية قريبة وبعيدة حملت هذه القبائل ثقافتها الخاصة من المنشأ فانتشرت ونمت حتى سهل قيادتهم لهدف واحد كما قال سيد الشهداء “ويحكم أهؤلاء تعضدون وعنا تتخاذلون”، ويستشهد الكاتب بقول نيتشه في الخير والشر “عن لغات الخير والشر التي يتحدثها البشر على اختلاف ثقافاتهم الإنسانية ليس سوى نتاجات للإرادة وليس جذورًا في الحقيقة والمنطق “.

وفي الفصل الثالث نفسه، يرى الكاتب أن مجتمع الكوفة اصيب بالمرض الاجتماعي نتيجة انهيار منظومة القيم التي تخضع للسنن الكونية حين يتخلى المجتمع عن مبادئه الدينية ويهجر المعايير الثقافية التي تعزز الوجود الاجتماعي المتماسك، ويرجع الباحث الحسني إلى الخذلان للإمام الحسين عليه السلام ” اللهم احبس عنهم قطر السماء”، “وابعث عليهم سنين كسنين يوسف”، كما هو في الثقافة القرآنية ( سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62) س الاحزاب، وقال تعالى ( رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا.. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ) نوح/26 -27 .

الكتاب قراءة نوعية بعلم حديث بمفاهيمه، وإن كان بعض الخطباء أشاروا لمعاني مقاربة، ولكن عنوان الكتاب أراد منها المؤلف تطبيق علوم أكاديمية يختص فيها باحثون يقرؤون تاريخ الإنسان وعلاقته بالطبيعة وبالظواهر والأحداث التي تؤثر على مسيرة البشر، وتكون القراءة التحليلية المختصة أقرب إلى المنطق ويتفاعل معها المتلقي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى