منبرٌ و”مقود“.. ومهزلةٌ في الزحام

عماد آل عبيدان
هو ذاتُه، ذاك الشاب الذي ارتدى ثوبه الأسود، وعطّره بدمعةٍ على المصاب.. جلس في الصفّ الأول من المجلس الحسيني، كأنّه سليلُ حواريي كربلاء.
ارتفعت أصواتُ النعي والنحيب واللطمِ، وسُرِجت القلوبُ في ليلِ الطفّ. كان يُطرق برأسه، ويتمتم: “لبيك يا حسين”.. حتى خُيِّل لي أنه سيخرج من المجلس لينثر دموع المصاب تحت أقدام المارة بَرَكةً، ويقبّل الأرض إن مرّ عليها يتيم.
ولكنه لم يمهلني كثيرًا كي أُصدّق ذلك.
ما أن انتهى المجلس، واحتضن الهواءَ المكلومَ بدعاء الختام، حتى هرع إلى سيارته كمن فاته القطار.
تغيّرت قسمات وجهه.. انعقد جبينه، واشتعلت يداه على المقود كأنها على زندِ حرب، لا على مقود مركبة.
حركته فجّة، وصوته أقرب إلى زئيرِ أحد جند يزيد:
– “تحرّك يا أخي! ما تشوف الطريق؟! أغبى ناس هالديرة!”
هكذا قال. وبكل سلاسة، دعس على روحه، ومضى.
تأمّلت ما رأيت. ثم خطر لي مشهدٌ نراه كل عام:
عشرات السيارات بعد المجلس، تندفع فجأة وكأن أحدهم صاح فيهم: “النجاةَ النجاة!”
أصوات أبواقٍ تصمّ الأذن، صراخ من النوافذ، تسابق في المواقف، مزاحمات لا تعرف أولوية، وكأننا في سباق ثأريّ، لا ساحةِ عزاء.
ذاك يمرّ بسرعة أمام باب الحسينية، دون أن يرفق بطفلٍ عائد أو شيخٍ واقفٍ يودّ السلام،
وآخر يُضيء أضواء التنبيه دون داعٍ، ويضغط على هرن سيارته كما لو كان يصرخ نيابةً عن الحسين!
وهنا من يعترض السير ليلتقط رفيقه من وسط الزحام، غير آبه بمن خلفه من الناس،
بل وقد يمدّ رأسه خارج النافذة ليسبّ من تجرأ أن “يُنبّهَه”، قائلًا: “صاير فقيه في المرور؟!”
يا سادة.. ليس هذا زحام عاشوراء، بل ازدحام في الفهم.
فما قيمة بكائنا، إن كنّا في أبسط اختبارٍ للسلوك ننهار؟
كيف لقلوبٍ انفطرت قبل دقائق أن تجمد بعدها كالحجر؟
كيف نعزّي آل محمد، ثم لا نترك لأحد فرصةَ المرور بهدوء؟
جلستُ بعدها أُحدّث نفسي:
مَن هذا؟
أهو ذاك الذي كاد يبكي دمعًا من نور حين سمع قول الخطيب: “قُتِلَ الحسينُ ظمآنًا…”؟
أم ذاك الذي توهّم أنه في “لعبة قيادة” من طرازٍ دمويّ لا يبقي ولا يذر؟
أين ذهبت تلك الأربعون الدقيقة التي كاد يخرّ فيها ساجدًا خشوعًا؟
أين الحسين الذي كان يطرق به صدره؟
وهل يُعقل أن تنتهي الثورة، والدم، والنور، والتاريخ، في 40 دقيقة، بتمامها وكمالها؟
أما كان الأجدر أن تُفضي إلى 24 ساعة من “التحسّن الإنساني”، لا من التراجع الأخلاقي؟
القصة ليست فيه وحده.
بل فينا كلنا.
ذاك الذي يشتكي من ظلم ابن زياد، ويرفع صوته في الموكب: “وا حسيناه”، ولكنه يظلم عامله في راتبٍ أو وقتٍ أو كرامة.
وتلك التي تمسح خدّها بمنديلٍ أسود، باكيةً على رقية، ولكنها تُمزق قريبتها في غيبةِ المجالس.
وذاك الذي يدفع آلافًا من الريالات لتزيين موكبه، ولكنه لا يدفع لحلّ ديْنِ جاره أو جوعِ يتيمٍ في الحياة.
الحسين – عليه السلام – لم يكن “مجلسًا”؛ كان ميزانًا.
ولم يكن “مناسبة”؛ كان مبدأً.
وما وقف في كربلاء ليُعطينا لحنًا نحفظه، بل اتجاهًا نسير فيه.
فإن خرجنا من المجلس كما دخلنا، فما تغيّر فينا شيء إلا العَرق وصوت بكاءٍ خاوٍ.
وإن بكينا على مصابه، وعدنا لنكرّر أفعال قاتليه، فما نفعنا بكاؤنا إلا كمن يذرف دمعةً على الطهر، ثم يدوس الطُّهر بقدميه.
يا من تقود سيارتك بعد العزاء،
تذكّر أن المقود ليس سيفًا تشهره في وجه الناس،
ولا هرن سيارتك نَعيٌ تنعق به على كل من لم يُفسح لك الطريق.
تذكّر أن الأخلاق في القيادة أول شهادة صدقٍ على ما خرجت به من المجلس.
قِفْ.. ابتسمْ.. افسحْ الطريق..
فقد يكون ذاك العابر المُتعبُ، هو عند الله أعظمُ ناصرٍ للحسين منكَ وأقرب.
أتعلمون متى يبدأ الحسين فينا؟
ليس عند قوله: “هل من ناصر؟”.. بل عند ردّنا العملي عليه.
في قيادتنا، في أسلوب كلامنا، في ذوقنا مع والدينا، في صدقنا بالعمل، في عدلنا مع من نختلف معهم، في إنصافنا، في عدم الغيبة، وعدم كوننا أوصياء على الآخرين!، في مروءتنا…
وفي كمّ مرة نؤثر الآخرين على أنفسنا، ولو كنا نملك سببًا للأنانية.
لا بأس أن تكون الأربعون الدقيقة طاهرة.
ولكن الطامة حين تكون هي كل الطهارة التي نملك.
كأننا نغسل وجوهنا كل ليلة، ثم نُغطّيها بالطين في الصباح.
الناس لا تقرأ الحسين في كتب، بل ترى الحسين في سلوكنا.
فيا من جلستَ مع الحسين 40 دقيقة،
أعطني بعدها 10 دقائق… فقط 10 دقائق من أخلاقه، لنصدق أنك كنتَ معه فعلًا، لا في مقعدٍ فحسب.
الحسين ليس للعرض الموسمي، بل للعيش اليومي.
وويلٌ لمن جعله مهرجانًا مؤقّتًا، بينما سلوكه طيلة العام نسخةً محسّنة من خصوم كربلاء.
أقولها، وأنا أول العابرين على جسر التوبة:
الحسين لا يريد دموعنا فقط…
بل أن يرى أثرها في مرايا قلوبنا،
لا في مرايا سياراتنا.