حضور الشبابُ المنبر.. الشكر لا يفي

عماد آل عبيدان
في كلِّ عام، وفي شهرٍ لا يشبه الشهور، يُعاد ترتيب الوجدان، وتتزيَّن الحارات بمشاهد لا يُؤلِّفها مخرج، بل تُنقش من دموعٍ وولاء ووعي. في محرّم، لا تستغرب إن رأيتَ البيوت تمشي على أطراف أصواتها، وإن وجدتَ القلوب تكتسي سواد الحزن، وحين تدخل مأتمًا، لا تُحصِ المقاعد أو المكيّفات أو السماعات، بل تأمّل الوجوه: أكثرها شبابٌ واعد، ناهيك عن الآباء والكهول والصغار. وأكثر تلك العيون.. دامعة، واعية، شاخصة، كأنها تستقي من المنبر حياةً أخرى. وتركيزنا هنا على فئة “الشباب”.
كم ظننتُ، كما ظنّ غيري، أن التكنولوجيا قد سحبت الشباب بعيدًا عن المنابر. فإذا بي أُفاجأ – هذا العام كما في أعوام خلت – أن نسبة الحضور من هذه الشريحة في بعض المجالس تجاوزت السبعين بالمئة، بل بلغت أحيانًا حدًّا جعلني أراجع قناعاتي: من قال إن الوعي هرب؟ من زعم أن عاشوراء لم تعد تغري أبناء اليوم؟ من أوهمنا أن المنبر قد شاخ، وأن العزاء طقسٌ قديم لا يُطرب الجيل الجديد؟
كلا.. إنّه منبرُ أبي عبدالله. ما يزال في ذروته، وما يزال قادرًا أن يُقيم في الأرواح محكمة، وأن يوقظ من تحت رماد العادة نارًا لا تخبو. وقد شهدتُ – لا مجازًا ولا نقلًا – أن حضور شابٍ واحد، بوعيه، وتركيزه، وجلوسه في الصفوف الأولى، أعمق أثرًا من حضور عشرين متفرجًا يتصيّدون مشاهد ينشروها في قصة عابرة.
ذاك الشاب الذي لا يصغي للكلمات فحسب، بل يُنصت لـ”نبرة الحسين” في كل خطبة. ذاك الذي يعود إلى منزله فيُعيد ما سمعه شرحًا لأمه، أو حديثًا لصديقه، أو تساؤلًا لنفسه. لا يشغله هاتفٌ بقدر ما تشغله شرارة سؤال، ولا يستهويه المظهر بقدر ما يفتنه الجوهر. الشاب الذي ينظم ويخدم بكل أريحية. هو اليوم حامل مفاتيح الاستمرار، وهو الذي يستحق منّا – نحن الكبار – شكرًا لا يُقال، بل يُشعر.
ليت الخطباء أيضًا يلتفتون إلى هذا الحضور، ليس كرقم في الإحصاءات، بل كذُخرٍ في المسار، وكقربانٍ حيٍّ لنهج كربلاء. فلو أن كل منبرٍ أشار إليهم بامتنان، وشكرهم على وعيهم، وأبرزَ دورهم، لأصبحوا أبطالًا لا جمهورًا فقط، حَمَلة راية، لا متلقّين.
فالطفُّ لم يكن دون شباب، بل بهم ابتدأت القصة، وبهم ارتفع لواء الثورة. نحن اليوم أبناء أولئك الآباء الذين كانوا شبابًا في مواكب العزاء، ومن الإنصاف أن نورِّث أبناءنا ما وُرِّثناه. وحين نُخصص – نحن أيضًا – لياليهم في المحرم، فإننا لا نكرمهم فقط، بل نُعلن استمرار الشعلة.
ليلة القاسم بن الحسن، عريس الطفّ، لا تمرّ كذكرى، بل تُحيا بالدموع والبصيرة والوفاء. كذلك ليلة عليّ الأكبر، شبيه رسول الله، الذي لو رآه العدو، لاستحى من سيفه وخَجل من نفسه.
هذه الليالي ليست طقوسًا، بل اعترافًا أن الشباب هم الثروة ووقودُ الثورة، ونورها، ورجاؤها. وأنّهم، حين يبكون القاسم والأكبر، إنما يرون ملامحهم في ملامح كربلاء.
هكذا نُدرك أنّ عاشوراء ليست ذكرى، بل مشروعٌ حيّ، يبدأ بدمعة، وينتهي بحياةٍ كاملة على طريق الحسين. وإنّ الشاب الذي يحضر، ويصغي، ويتثقف، يُعيد صناعة ذاته، ويبني أسرته، ويُهيئ بيئته لنهجٍ لا يشيخ.
ذاك هو الأثر المتسلسل. تبدأ الخُطى بشاب، ثم تُثمر طفلاً يرى الحسين قدوته، وأمًّا تُمهِّد لأولادها الطريق، وأبًا يُحيي المجلس في بيته بدمعةٍ، وبوصيةٍ، وبهمس: “يا ليتنا كنّا معكم..”.
فما دام في المجالس مقعدٌ لشاب، فاعلم أنّ النهضة بخير. ما دامت في الصفوف الأولى عيونٌ دامعة من شبابنا، فاعلم أنّ كربلاء ما تزال تنبض، وأنّ الحسين عليه السلام يسكن كل بيت، وكل ضمير.
وهنا نوجّه دعوة محبّة وشكر في آن:
إلى خطبائنا الأعزّاء، ليُكثفوا التفاعل مع الحضور الشبابي، بالإشادة والاحتواء والتوجيه الموجّه بلغتهم وطموحهم، فهم ليسوا جمهورًا صامتًا، بل مشاريعُ وعيٍ وفكرٍ وحياة.
وإلى المجتمع، بمختلف طبقاته، لنحتضن هذا الوعي النابض ونُشجّع عليه، لا أن نستهين به أو نعتبره تكرارًا للماضي، بل هو استثمارٌ في المستقبل، وامتدادٌ لنور الثورة الحسينية.
فمن لم يشكر هؤلاء الشباب، لم يشكر الحسين.. ومن لم يُشعل فيهم جمرة الانتماء، فاته أنَّ عاشوراء ليست حزنًا فقط، بل بوصلة وولادة وانتماء.
فشكرًا لكم أيها الشباب.. ولكل عينٍ ما نامت عن نداء الطفّ،
ولكل قلبٍ لبّى: “هل من ناصر؟” فكان هو الجواب.
ويا منبر الحسين.. ما زلتَ تولد من كل شاب،
وتُعلن، كل عام: “فيَّ الحياة، وفيهم البقاء.”