مرتقى الكمال (٢)

السيد فاضل آل درويش
ورد عن الإمام الحسين (ع): (من جاد ساد )(بحار الأنوار ج ٧٥ ص ١٢١).
هناك من الروايات الشريفة ما يرسم طريق القرب إلى الله تعالى وصناعة الشخصية الإنسانية الكمالية، عن طريق التخلق بالأسماء والصفات الإلهية الحسنى فيكون المرء مظهرًا لتلك التجليات الجمالية، والجود والعطاء الإلهي بنعم لا تعد ولا تحصى تحرّكنا نحو ساحة الكرم الصانعة لشخصية الإنسان المتصف بالكرامة والقوة، حيث يخلّصه العطاء من أغلال حب المال السلبي المورث للبخل والجشع، وفي المقابل يمنحه الطمأنينة وتجدد لباس الراحة النفسية والسعادة كلما وطأت قدماه أرض العطاء والمشاركة الوجدانية مع حاجات وأوجاع الآخرين من حوله ماديًّا أو معنويًّا (من هموم ومشاكل ناتجة عن ضغوط حياتية).
ومن أهم الآثار لقانون العطاء والانفتاح على حاجات الآخرين هو السيادة في بعدها الأول، وهو كبح جماح النفس الأمارة بالسوء والمتحكّم فيها الأهواء والشهوات المتفلّتة، وليس هناك من تصوّر للشخصية الإنسانية النبيلة والمكرمة إلا من خلال الضبط الذاتي والسيطرة على النفس، والتخلص من أغلال حب المال بنحو سلبي يظهر القيم والعطاء ويصوغ العلاقات الإنسانية وفق قيم التكافل.
والسيادة في معناها الآخر هو الجانب الروحي والاتصال بالله تعالى من خلال ميدان العمل والطاعة والتقرب من الله تعالى، فالجانب الإيماني يتجلى في أحد أبعاده من خلال العلاقة مع عباد الله تعالى والتصرف معهم، وهنا تأتي الدعوة إلى التحرر من أغلال النفس المكبّل لها والمنطلقة من النظرة والعلاقة بالمال، فهناك اتجاه يدعو إلى الانغلاق على الذات وتبلد الوجدان تجاه النفوس الموجوعة بألم الفقر أو هموم المشاكل والأزمات، ويعتقد بأن الاقتدار والسيادة تنشأ من السعي إلى تحصيل الحاجات الضرورية والكمالية والرفاهية والترفع عمومًا عن قاع الحرمان الاقتصادي، وبذلك يتحقق للفرد حياة كريمة وسعيدة فلا منشأ للمنغصات والهموم كالحرمان والعوز المادي، وفي المقابل هناك اتجاه القيم الإنسانية والأخلاقية الناظرة لمفهوم الاقتدار والسيادة من تصور الموازنة بين الحاجات الروحية والمادية، فكما أن هناك أسبابًا للقلق والألم المادي بسبب الفقر، فكذلك هناك الآلام الروحية والضغوط النفسية التي تعتصر المرء مع وجود اقتدار مادي عنده، والسيادة الحقيقية ومنبع السعادة والراحة النفسية تنشأ من التأثير والقدرة على صنع صور بلسمة الآلام وتخفيف الهموم عن الغير والمشاركة الوجدانية معهم، وفي هذه الحالة يتحقق للإنسان الارتقاء والعروج الروحي بطلب الرضا والقرب الإلهي بالاهتمام بعباد الله تعالى وطلب العفو والمغفرة منه سبحانه من خلال قانون الغوث والعون مع المحتاجين له.
والخلاصة أن السيادة الروحية والإيمانية في طريق الانقطاع إلى الله تعالى وطلب رضاه، تتجلى في أحد سبلها في الجود بمفهومه الشامل، بما يشمل مشاركة وجدانية مع الآخرين في حاجاتهم وهمومهم على جميع المستويات، فيبذل من وقته وجهده ما يسهم فيه بالتخفيف عن هموم الآخرين والدفع نحو البحث عن حلول ممكنة.