أقلام

عندما تُزهر الدماء: كيف صنعت تربية الحسن قاسم كربلاء؟

أحمد الطويل

هذه المقالة هي قبسة وجدانية ومعرفية مما تناثر من نور في المجلس الحسيني للشيخ محمد السمين، والمنعقد في مجلس أبي الفضل العباس عليه السلام بحي السلام في سيهات، مساء يوم الخميس الثامن من محرم الحرام عام ١٤٤٧ للهجرة. هي حصيلة ما خالط القلب قبل السمع، وما لامس الروح قبل العقل، مما قيل عن ثمرة التربية الصالحة، ومثالها الذي تفجّر بطولةً في عاشوراء، القاسم بن الحسن عليهما السلام.

مقدمة:

من البيت تبدأ المعركة، ومن حضن الأم تصنع كربلاء.

كربلاء لم تكن فقط ساحة دم، بل كانت امتحانًا صارخًا لسنوات من التربية، من الليل الطويل الذي قضته أمٌّ تناجي ربّها، ومن عينِ أبٍ يُحدّق في مستقبل ولده بعين الإيمان لا بعين الدنيا. في كربلاء، لم يُولد الأبطال من صُدفة ولا من صرخة لحظة، بل من جذور، من بيت، من أمّ ربّت، وأبٍ خطّ المسار، وزمانٍ انتظر الثمرة. وفي مقدمة هؤلاء القاسم بن الحسن.

القاسم صاعقة نور في ليلة عاشوراء

أيُّ روحٍ تسكن جسد هذا الغلام؟! أيّ قلبٍ هذا الذي وقف أمام عمّه الحسين، فتىً لم يبلغ الحلم، ولكنّه حمل راية الرجال، وتقدّم إلى الموت وهو يبتسم وكأنّه يُقبل على عرس، لا على سيف قاتل! حين سُئل عن الموت، لم يتردد، لم يتلعثم، لم يتراجع، قالها بملء روحه: “أحلى من العسل”. هل هذه جرأة مراهق؟ لا والله، هذا نتاج تربية سُقيت بنور النبوة وحنان الرسالة وبصيرة الإمامة. هذا ابن بيتٍ يعرف أن الحياة الحقيقية تبدأ من لحظة الفداء.

حين تصنع البيوت أبطال الطف

أيّها الآباء! أيّتها الأمّهات! لا تبحثوا عن كربلاء في كتب التاريخ، ابحثوا عنها في بيوتكم، في مجالسكم، في كيفية تربيتكم. كربلاء تتكرّر كل يوم، ومنزلكم قد يلد قاسمًا جديدًا، أو لا.

هل عرفتم سرّ القاسم؟ إنّه مشروع تربية. تربية لم تبدأ يوم الثامن من المحرم، بل قبل سنوات، حيث الأب الحسن المجتبى كان يبني قلبًا، لا فقط جسدًا. حيث الأمّ كانت تدفع ولدها بدموعها لا لتبكي عليه بل لتزفّه شهيدًا.

الجو التربوي أنفاس تصنع مصيرًا

كل بيت يملك الخيار: إمّا أن يكون مصنعًا للفراغ، أو منجمًا للبطولة. التربية لا تكون فردية، لا تصلح أن تكون فقط توجيهًا لفظيًا، بل مناخًا، بيئة، صوت قرآن في الفجر، ونغمة دعاء في الليل، ومسجد وحسينية وصورة شهيد على الجدار. النبي الأكرم أسّس الإسلام بأجواء عامة، ربّى أصحابه جماعة، لأنه يعلم أن الفرد ينضج وسط وهج الجماعة.

فمن أراد قاسمًا، فليخلق بيئة قاسم.

القدوة التربية التي لا تحتاج شرحًا

حين يصلي الأب في الليل دموعًا، يراقب الابن في صمت. حين تضع الأم الخبز للفقراء خفية، تُزرع في قلب الطفلة بذرة الكرم. التربية بالقدوة تفعل ما لا تفعله المواعظ. ألم تربّ الزهراء الحسنين على الجار قبل الدار؟ لم تقل بل فعلت.

إذا أردت ابنك قاسمًا، فكن له حسنًا. كن له قدوةً تصلي، تبكي، تقف مع الحق حتى لو كنت وحدك.

الرفق لا تُطفئ شعلة ولدك بالقسوة

كم من قاسمٍ أطفأناه نحن بأيدينا؟ بالضرب، بالصراخ، بالإهمال، بالتحقير. التربية ليست كسرًا للعصيّ، بل تشكيلٌ للذهب بالنار والحنان. إن كنت لا تفهم ابنك حين يتغيّر، لا تعنّفه، احضنه. لا تسأله: “ما بك؟”، بل قل له: “أنا معك”.

التعامل بالرفق هو الطريق الأسرع لصناعة شخصية واثقة، لا مهزوزة، ولا متمرّدة. ألم يكن الحسين عليه السلام يُقبّل أبناءه في ليلة عاشوراء، وهو يعلم أنهم سيفترقون؟!

اصبر فالثمرة لا تُقطف قبل نضوجها

أكثر خطأ يقع فيه المربّون أنهم يريدون الثمرة غدًا. يزرع اليوم، ويغضب إن لم ير قاسمًا في الأسبوع المقبل! التربية تحتاج وقتًا تحتاج مراحل تحتاج أن تبكي على ولدك في الليل، ثم تبتسم له في النهار.

ولا تستعجل، قد تأتي لحظة البطولة في الزمان الذي لا تتوقّعه. كم من قاسم نبت في بيتٍ لم يلاحظه أحد، ثم فجّر الدنيا نورًا في يومٍ ما!

الدعاء الوقود الخفي لتربية العظماء

ليست كل الوسائل مادية، هناك سرّ عظيم يغفل عنه الكثير: الدعاء. حين ترفع الأم كفّها في خفاء الليل، وتقول: “يا رب، اجعل ولدي عبدًا صالحًا”، فإنها بذلك ترسم طريقًا قد لا تراه الآن، ولكنه يظهر حين تحتاجه الأمة.

القاسم لم يكن وحده على أرض الطف، كانت خلفه دعوات، ودموع، وأمنيات، ووصايا.

الخلاصة:

إذا أردت أن ترى كيف تصنع التربية أبطالًا، فانظر إلى كربلاء. وإذا أردت أن ترى أعظم ثمرة لتربية ربانية، فانظر إلى القاسم بن الحسن. هو لم يكن بطلًا بالصدفة، بل مشروعًا ربّاه حسنٌ، ودفعته أمٌّ نحو المجد، واحتضنته بيئة النبوة.

كل بيتٍ اليوم عليه أن يسأل: هل نُعدّ أولادنا ليكونوا قاسمًا في زمنهم؟ هل نُجهّزهم ليكونوا من جنود الإمام الحجة لا من المتفرجين عليه؟

الجو، القدوة، الرفق، الصبر، والدعاء، هذه ليست نصائح تربوية فقط، بل خريطة لصناعة المجد.

اللهم اجعل أبناءنا كالقاسم في وعيه وثباته، ووفقنا لتربية تُرضيك وتُرضي وليك الحجة بن الحسن عليه السلام.

هذه المقالة استلهامٌ لما فهمت من المجلس الحسيني المنعقد في مجلس (أبو الفضل) العباس في حي السلام في سيهات، للشيخ محمد السمين مساء يوم الخميس الثامن من محرم الحرام عام ١٤٤٧ للهجرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى