أقلام

عاشوراء: نداء الإنسان الأزلي

أحمد الطويل

مقدمة:

وهج الثورة وأبدية الرسالة.

عندما يطلّ عاشوراء، لا يطرق أبواب التاريخ فقط، بل يوقظ الروح، ويبعث في القلب رجفةً لا تشبه سواها.

الحسين بن علي لم يكن قائدًا عاديًّا في معركةٍ عادية، بل كان الضمير الحي الذي أحيا رسالة السماء حين جفت منابر الأرض.

في كربلاء، لم تُكتب صفحة دم فقط، بل كُتبت أعظم فصول الوعي البشري، حين قرّر رجل أن يقول “لا” بوجه طغيان مطبق، فكان صوته صدى لكل الأحرار بعده.

قال الحسين: “إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي…”

فكان خروجه إصلاحًا بالدم، لا بالنصائح، وثورةً بالنية الخالصة لا بالخطاب العالي.

“لا يُقاس الحسين بالثوار، بل بالأنبياء، ولا تُقاس كربلاء بالمدن، بل بالسماوات.” (نزار قباني)

الحسين والقرآن روح واحدة في جسدين

حين تقرأ الآيات التي تأمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تجد في الحسين مثالها الحي: “ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر…”.

لقد نطق الحسين بهذه الآية بفعله قبل قوله.

وحين صمت العلماء، وسُكّت المنابر، قرّر أن يتكلم هو بجسده، وأن يُلقي خطبته على رمح، ويُقيم حجته بالدم.

“الحسين ليس كلمة، بل هو راية.” (نزار قباني)

كربلاء مدرسة الحياة لا الموت

كربلاء لم تكن ساحة موت، بل واحة حياة.

كل من سقط فيها، لم يُقتل، بل عاد حيًّا في وجدان الناس.

كانت المعركة بين منطق القوة وقوة المنطق،

وسقط السيف، وبقي الفكر، وبقيت القِيَم التي سقاها الحسين بدمه تنبت على مدى القرون.

“اعتمد الحسين على قوة المنطق، واعتمد عدوه على منطق القوة، فلما سقط منطق عدوه، انتصر منطق الحسين، وكان انتصاره أبديًّا.” (نزار قباني)

الشباب والكهول والعبيد ملحمة الإنسانية المتكاملة

في ركب الحسين، لم يكن الشباب وحدهم من نهضوا، بل كان معهم الشيوخ، والعبيد، والنساء، وحتى الأطفال، في ملحمة إنسانية لا مثيل لها.

كان علي الأكبر عليه السلام، شابًا في مقتبل العمر، فلما قال له أبوه إن الموت يتقدمهم، قال كلمته الخالدة: “يا أبتَ، أَوَلسنا على الحق؟”

قال: بلى.

قال: “إذاً لا نبالي، أوقعنا على الموت أم وقع الموت علينا.”

وكان القاسم بن الحسن، ابن الثالثة عشرة، حين سأله الحسين: “كيف ترى الموت؟”

قال: “أحلى من العسل.”

هؤلاء الشباب لم يروا في الشهادة خسارة، بل ارتقاء، ولم يروا في الدم نهاية، بل بداية.

واليوم، يُطلب من الشباب أن لا يحملوا السيف، بل أن يحملوا الوعي.

أن يُجاهدوا لا بأجسادهم، بل بعقولهم، بوعيهم، بوقوفهم على خط كربلاء في كل اختبار قيمي.

أما زهير بن القين، ومسلم بن عوسجة، وبرير بن خضير، فكانوا من الشيوخ الذين قاتلوا حتى الرمق الأخير.

وقال جون مولى أبي ذر، وكان عبدًا، حين أراد الإمام إعفاءه من القتال: “في الرخاء ألحس قصاعكم، وفي الشدة أخذلكم؟ لا والله!”

كربلاء لم تكن جيشًا من طبقة واحدة، بل نموذجًا لثورة إنسانية شاملة، اجتمع فيها الحر والعبد، الشاب والشيخ، الرجل والمرأة، على كلمةٍ واحدة:

“لن نُسلِمك يا حسين!”

المرأة الزينبية الكلمة التي أكملت الدم

حين خيّم الصمت بعد المذبحة، خرجت زينب عليها السلام بالكلمة.

وقفت في وجه الظالم تقول:

“فكد كيدك، واسعَ سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا.”

كانت زينب العين الثانية للنهضة، واللسان الذي نقلها من الصحراء إلى كل العصور.

لم تكن مرأةً باكية، بل ثائرة واعية، تجسيدًا حيًّا لمقولة: “تمزقت رايته… ولم تُنكّس

وتمزقت أشلاؤه… ولم يركع

وذُبحوا أولاده… ولم يهن

إنها عزة الإيمان في أعظم تجلياتها.” (نزار قباني)

الحسين مشروع لا شخص

لو أراد الحسين أن يعتذر، لقال: “ليس الوقت مناسبًا”، أو “الناس لا تستجيب”، أو “عندي عائلة وصغار”، لكنه رأى أن السكوت جريمة، وأن الشهادة كرامة.

“لو شاء الحسين أن يعتذر عن الجهاد، لوجد كل الأعذار التي يتوسل بها الناس… لكنه رأى الموت له عادة، وكرامته من الله الشهادة.” (نزار قباني)

وما إن مضى إلى كربلاء، حتى صار الدم منهجًا، والشهادة هوية.

الخلاصة:

عاشوراء ليست مأساة يُبكى عليها، بل نور يُستنار به.

الحسين لم يمت يوم العاشر، بل وُلِد في ضمير كل حرّ.

فيه تجتمع كل القيم: الإيمان، والكرامة، والصبر، واليقين، والوعي، والتضحية، والقيادة الأخلاقية.

هو ثورة على الزمن حين يفسد، وعلى المجتمعات حين تستسلم، وعلى الدين حين يُحرّف.

من يتبعه لا يعنيه لباس السواد فقط، بل يهمه أن يعيش بـ”نهج الحسين”، أن يقول “لا” حين يُطلب منه التنازل، وأن يثبت حين يتزحزح الجميع.

عاشوراء نداء، لا يسمعه إلا من سكنت الحُرية قلبه، وصمتت فيه الضوضاء.

هو نداء من وراء الزمان، يقول لكل إنسان:

“لا تساوم، لا تبرر، لا تخن، كن حسينًا.”

“كلما حاولت أن أعبّر عن الحسين بالكلمات، وجدت أن الكلمة عاجزة عن التعبير عن نفسها فيه.

فقلت عنه إنه الحق… وقلت إنه الفضيلة…

ثم ألهمني الله أن أقول: الحسين… هو الحسين، وكفى.” (نزار قباني)

اللهم اجعلنا من الحسين، ومع الحسين، وعلى نهج الحسين، ولا تخرجنا من الدنيا إلا وقلوبنا معلقة برايته. السلام عليك يا أبا عبد الله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى