حينَ تبكي لتحيا.. فلا تَلُمْني باكيًا

عماد آل عبيدان
لا تَلُمْ باكيًا، ولا تُسارع إلى لَوم الدموع إذا انهمرت على وجنتي أحدهم.
فثمة بكاءٌ لا يُميت الإنسان، بل يُحييه.
ثمة دمعة، إن نزلت، أزهرت في قلب صاحبها حياةً أصدق، وأنقى، وأبقى.
البكاء ليس عارًا، ولا عيبًا، ولا ضعفًا.
إنه فعلُ فطرة، صوتُ القلب حين يعجز عن التعبير، وهو أوضحُ دليلٍ على أن فينا بقيةً من إنسان.
وما خُلقت المآقي إلا لتكون منفذًا لما لا يستطيع القلب احتماله.
لكن ثمّة دمعة لا تُشبه سواها، دمعةٌ لا تبلّل الخدّ فحسب، بل تُبلّل الضمير.
دمعةٌ لا تُثقل المآقي، بل تُنير البصيرة.
إنها: دمعة الحسين عليه السلام.
البكاء على الحسين ليس طقسًا عاطفيًا، ولا لحظة انفعال تنتهي، بل هو انتماء.
إنه ارتقاءٌ في سلّم الوجدان، وامتحانٌ لليقظة الداخلية.
فمن يبكي على الحسين، إنما يعلن أنّه ما يزال حيًّا، ما يزال يُحبّ، ما يزال يرفض الذلّ، ويهتزّ للكرامة المذبوحة.
لو قيل لأحدهم: “لمَ تبكي؟”
لقال: “لأنّي قرأتُ في التاريخ أن رأسًا نُحر. وقُطع، وهو على حرّ التراب، عطشان، غريب، وحيد، مظلوم، طاهر!”
أيّ دمعة تُضاهي هذه الدمعة؟
أيّ مشهدٍ يُعادله في الأثر؟
وأيّ اسم يهزّ العاطفة مثل اسم الحسين؟
وإن أردتَ أن تفهم عمق البكاء في وجدان العرب، اقرأ شعر الخنساء في أخيها صخر.
لم تكن تبكيه كأخ فحسب، بل كجبلٍ تُسند عليه ذاتها، فتقول:
وإنّ صخرًا لتأتمُّ الهداةُ بهِ
كأنّهُ عَلَمٌ في رأسهِ نارُ
ومع أن الدموع لم تفارقها بعد رحيله، فإن بكاءها لم يكن عجزًا، بل بطولة شعورية.
فما ظنّك إذن بزينب عليها السلام، التي شهدت كربلاء، ودفنت دموعها في ليل السبي؟
وما ظنّك بمن يبكي اليوم على تلك المصيبة؟
إنه ليس تأثّرًا عاديًا… إنه استيقاظٌ، تحوّل، وجدان ينهض من تحت الركام.
البعض يظن أن البكاء يقصينا عن العقل، ويجعلنا أسرى للضعف،
ولكن الحقيقة أن العاطفة النقية لا تعارض العقل، بل تُكمله.
وقد قيل:
العاطفة دون عقل، كفرسٍ شاردةٍ بلا فارس.
والعقل دون عاطفة، كفارسٍ واقفٍ بلا جواد.
لا يُنجز الطريق من يمضي بعقله وحده، ولا من يُسرج قلبه دون عقل.
لكن حين يُبكيك الحسين، فإنك تمضي راكبًا على فرس العاطفة، بقيادة العقل النبيل.
تمضي مستقيمًا، لا تتخبّط، ولا تتقهقر.
لأن البكاء عليه لا يُسقطك، بل يُقيمك.
لا يُغرقك في التوهان والضياع، بل يهديك إلى الطريق.
البكاء في جوهره، فعل تفاعل لا تراجع.
وقد بكى رسول الله “ص” مرارًا، بكى على ولده إبراهيم، وعلى شهداء أُحد، وعلى أمته.
وقالها بصدق إنساني خالص:
“إنّ العين لتدمع، وإنّ القلب ليحزن، وإنّا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون.”
ووقف على جسد عمّه حمزة وقال:
“لكنّ حمزة لا بواكي له.”
فما أعظم هذه المقولة، وما أوجعها!
فإذا كان بكاء الحزن على القريب محمودًا،
فكيف بالبكاء على من قدّم دمه قربانًا لكرامتنا، وسُحق عطشًا ليبقى الحقّ مرويًّا في ضمائرنا؟
كيف بالبكاء على من أُحرقت خيامه، وسُبيت نساؤه، وتفرّق أطفاله في الفلاة هائمون على وجوههم؟
في المجتمعات التي جفّت دموعها، انتشرت القسوة، وتصلّبت الأرواح، وصار الجرح لا يُرى لأن الوجدان تحجّر.
بينما مجتمع البكاء على الحسين، هو مجتمع لم ينسَ كيف يحسّ.
دمعته تعني أنه ما زال حيّ الضمير، حيّ القلب، حيّ الولاء.
رأيتُ شابًا يومًا، لم يعرف فَقْدَ والده، ولا مرارة الحروب،
ولكنه بكى بكاءً مريرًا حين سمع قصة عليّ الأكبر…
وكأنّ شيئًا في قلبه كان ينتظر من يُوقظه، فجاء الحسين، وقال له:
أبكِ لتعرف أنك إنسان.
لا تَلُمْ من تفيض عينه عند ذكر كربلاء.
ولا تستهجن قلبًا يبكي كلّ عام على مصابٍ لم يكن شاهدًا عليه.
فما أشدّ العمى… أن ترى المشهد ولا ترى المصيبة.
علّموا أبناءكم أنّ البكاء على الحسين شرف،
وأن الدمع عليه يطهّر، لا يُدنّس،
وأن هذه الدمعة لا تسقط عبثًا، بل تُكتب، وتُرفع، وتُثقل كفّة النور يوم الحساب.
فإن رأيتَ باكيًا في مأتم، لا تسأله: “لمَ تبكي؟”
بل اجلس إلى جواره، وضع يدك على قلبك، وقل:
“طوبى لك.. إنك تبكي لتَحيا.”
فلا تَلُمْني إن انحدرتْ منّي دمعة،
ولا تستكثر عليَّ نشيجي إن اهتزّ صوتي عند ذكر الحسين…
فأنا لا أبكي حزنًا خاملًا، ولا وجعًا عابرًا،
بل أبكي لأنّ قلبي ما زال حيًّا،
أبكي لأنّ للحسين في وجداني مقعدًا لا يُزاح.
أبكي لأنّه إذا جفّت المآقي عند ذكر من ذُبح ظمآنًا،
فعلى الرحمة السلام، وعلى الإنسان العزاء.
فدعني أبكي…
فربّما في هذه الدمعة، حياةٌ ما كنتُ لأحياها دون الحسين.