ومضاتٌ من عرش النور: حين يأمر المعصوم فتُطيعه الأكوان

أحمد الطويل
مقدمة:
من الذي يحرّك هذا الكون؟
من الذي بيده الكلمة التي تُسكن العاصفة أو تُطلق النداء في الوجود؟”
هل هي قوانين الطبيعة وحدها، أم أن هناك فوقها من إن قال للشيء “كن” كان؟
حين ترى زينب تمضي بثباتٍ رغم كل الفجائع، ثم تقف أمام ابن أخيها الإمام زين العابدين تنتظر أمره، وحين ترى الإمام الأسير يخرج في اليوم الثالث عشر من محرم ليعود إلى كربلاء ويدفن الأجساد الطاهرة، فاعلم أن وراء الستار شيئًا أعظم من السياسة، أعظم من المعجزة: إنه سلطان الولاية التكوينية.
فلا تحدثني عن القدرة، حتى تعرف الإمام، ولا تكلّمني عن الطاعة، حتى تمرّ عبر زينب، ولا تفتش عن الله، حتى تمرّ عبر وليّه في الأرض.
الاصطفاء الإلهي: بوابة السر الأعظم
قال الله تعالى: “إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ”.
الآية الكريمة لا تتحدث عن شرفٍ عائليٍّ فحسب، بل تشير إلى اختيار إلهي لمن يحمل سرّه ويُجري مشيئته في الكون.
الله لم يصطَفِهم عبثًا، بل جعل في أيديهم أسرار التكوين والتدبير.
عيسى يُحيي الموتى، موسى يشق البحر، آصف بن برخية يأتي بعرش في لحظة… وكلهم ممن اصطفاهم الله.
فكيف بمن هم فوقهم رتبةً؟
كيف بأهل بيت النبوة، الذين قال فيهم النبي ﷺ: “إني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدًا”؟
الولاية التكوينية إذًن ليست بدعة، بل امتداد للاصطفاء الإلهي.
البرهان العقلي: ضرورة القيادة فوق الطبيعية
العقل لا يقبل أن يُترك الخلق دون قائد، ولا يستسيغ أن يكون من عليه مدار الدين عاجزًا عن قيادة الحياة.
الولاية التكوينية ضرورة عقلية.
لأن الذي يتصدى للهداية الكونية، لا بد أن يكون متصلًا بالمصدر الأعلى للقدرة: بالله عز وجل.
هل يُعقل أن يكون النبي موسى قادرًا على قلب العصا حيّة،
ويكون الإمام الذي يتولى أمر الأمة بعد النبي عاجزًا عن التدبير؟
أبدًا، فالحجة، لا بد أن تكون فوق العادة، لأنها حُجة الله، وليس فقط حاكمًا أو فقيهًا.
المشهد الحسيني: زينب والإمام بين السيف والسرّ
في كربلاء، تجلّت أسمى صور الطاعة لله عبر الطاعة للإمام.
فحين خرّ الحسين شهيدًا، وارتجّ الكون، وبقيت زينب في قلب الزلزلة، لم تكن لحظة فراغٍ قيادي، بل لحظة انتقال الإمامة إلى زين العابدين عليه السلام.
ورغم ما كانت عليه زينب من عظمةٍ وثباتٍ وبصيرة، فإنها، بعد المعركة وهدوء الغبار، لم تتصرّف من ذاتها، بل توجهت إلى الإمام، وقالت بخضوع العارفين: “يا بقية آل محمد… ماذا نصنع؟”
فأمرها الإمام بكلمة جمعت التدبير والرحمة والقدرة: “يا عمّة، فِرّي بمن معكِ في البيداء.”
فأطاعت، دون نقاش، دون تردد، لأن الأمر ليس أمر رجل، بل أمر إمام معصوم، حجة الله في الأرض.
ثم، وفي اليوم الثالث عشر من محرم، حصل ما لا يُصدّق. الإمام زين العابدين، الأسير المريض، خرج من الكوفة إلى كربلاء ليدفن الأجساد الطاهرة، رغم السلاسل والقيود، رغم العسكر والحصار.
لا بشر يقدر على ذلك، بل إمامٌ يحمل سرّ الله: الولاية التكوينية.
هكذا أطاعت زينب، وهكذا أمر الإمام، وهكذا تجلّى الله على الأرض من خلال أوليائه.
المهدي عليه السلام: سيد الأمر إذا جاء الموعد
وإذا عرفنا أن كل إمام معصوم يحمل هذه الولاية، فأعظمهم اليوم وأجلّهم سرًّا هو الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف، ولي العصر، وصاحب الأمر.
غائب عن الأعين، حاضر في التدبير، لا يُرى، ولكنه يُجري أمر الله في الخلق.
هو من تُستنزل ببركته الأرزاق، وتُحفظ به الأرض، هو من إذا ظهر، قال لكل مظلوم: “قُم”، وقال للظالم: “انتهِ”.
دعاء المعرفة يصرخ بهذا المعنى: “اللهم عرفني نفسك، فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف رسولك،
اللهم عرفني رسولك، فإنك إن لم تعرفني رسولك لم أعرف حجتك، اللهم عرفني حجتك، فإنك إن لم تعرفني حجتك، ضللت عن ديني.”
فمعرفة الإمام ليست مجرد معلومة، بل بوصلة النجاة.
هو باب الله، وهو الحبل المتصل بين السماء والأرض، ومن أنكر ولايته، أنكر قدرة الله على أن يجعل لعبده سلطانًا في الكون.
الخـلاصـــة:
أيّها القلب، هل شعرتَ يومًا أن الزمن يمشي على وقع خُطى من لا يُرى؟
هل نظرتَ إلى كربلاء لا كأرض معركة، بل كبوابة تفتح على السموات؟
إن كنت تظن أن الكون يسير وحده، فقد نسيت من بأمره تدور الأفلاك.
الإمام ليس رجلاً فقط،
هو مرآة أمر الله، هو الذي إن أشار، أطاعتْه الجبال،
وإن نظر، خضعت له الأكوان، هو صاحب الولاية التي لم تُمنح إلا لخُلّص الأنبياء، فما بالك بسليل محمد، ومشكاة النور الإلهي!
في كربلاء، لم تمت زينب، بل أحيت التاريخ بطاعةٍ خرس فيها العقل، وصرخ اليقين: “أمرُك يا ابن رسول الله نافذ، وإن سالت الدماء.”
وفي اليوم الثالث عشر، مشى الإمام الأسير نحو الجثث الطاهرة، لا على قدميه فقط، بل على جناح القدرة الربّانية، ليُثبت أن الإمام، حتى في القيود، هو سيّد التكوين.
وأنت، لن تُدرك شيئًا من هذا الكون، إن لم تعرف من يدبّره، ولن تهتدي إلى الله،
إن لم تمرّ عبر بابه الأعظم: الإمام المعصوم.
فاعرف إمامك، تعش حياة لا تموت فيها أبدًا.
اللهم عرّفني إمام زماني، وثبّت قلبي على ولايته، واجعلني من الطائعين لأمره في غيبته، ومن أنصاره في ظهوره، بحق زينب الطائعة، وزين العابدين وليّك في كربلاء.