أقلام

صرخة روح

السيد فاضل آل درويش

في لحظات مصارحة حقيقية بعد التأمل في الحال المأساوي والسقطات في حفر الآثام والمعايب، تنطلق صرخة روح متألمة من ذلك الواقع وتطلب تغيير المسار نحو الطهارة النفسية والتخلص من دنس الشهوات، فالحياة السوداوية لها طريق لا يمكن أن تخفى نهايته المظلمة وهي الضياع والحيرة وفقدان القدرة على الاتزان، فكيف يمكن لتلك الروح المتعبة أن تقر وتهدأ أمام صورة رائعة وجميلة، لمن استطاع أن يحدث استدارة كاملة بملء إرادة حديدية استطاعت أن تخرق الحجب الظلامية ويبزغ منها نور الاستقامة والهداية بعيدًا عن متاهات الدنيا الفاتنة، فليس من السهل على من تدثّر بعباءة الغفلة وعمى البصيرة أن تتبلور منه صورة الملاك الطاهر، إنها إرادة الكرامة ورفض الأسر لمتاع الدنيا الزائل وذلك من خلال قرار كبير بوابته التوبة والرجوع إلى الله تعالى، فالحر الرياحي عاش حياة التيهان والبعد عن الحقيقة بعد أن أرخى عين البصيرة عن رؤية جمال العزة والفضيلة، وقف بين يدي النور الأبهر معلنا مستجدات مواقفه وتطلعاته وتصوراته ليعلنها على دكة الإقرار والاعتراف، قد أشاح بوجهه عن كل تلك الأقاويل والغمز الذي سيطاله ويتهمه بالجبن والخيانة وضعف الرأي، إلا أن له نصيبًا كبيرًا من اسمه فالحرية سمة مهمة في شخصيته وتجلّت في إرادته ورؤيته للمستقبل الحقيقي، فلم يكن هناك متسع من الوقت أو فسحة من التأمل بعد أن اتّضحت الحقيقة المتطلّبة لموقف إنساني لا لبس فيه، فهناك النفس الذليلة المأسورة لأغلال حب الدنيا ومتاعها الذي لا يلبث أن يغادر صاحبه أن يرحل بدون شيء منه ما عدا قطعة قماش (الكفن)، وفي مقابلها تتجلّى أمامه صورة النفس الحرة التي لا تلتزم لشيء سوى الحق والفضيلة، ومهما كانت رحلة الضياع وامتدادها فإن رحلة الرجوع إلى الله تعالى لا يشبهها شيء في الدلائل والتأثير، فإنها رحلة استعادة الإنسان نفسه من تغلغل الآفات الأخلاقية والنقائص، وعروج الروح نحو علياء التكامل والتمسك بالفضائل في محطات الاختبار والابتلاء.

لم تكن مقاربة الحر الرياحي لمواقفه مجرد لحظة تأمل عابرة، بل هو انقلاب حقيقي وانسلاخ من غشاوة الغفلة والضياع واتخاذ موقف مصيري ووجودي بملء الإرادة الصلبة، فلم يكن أمر ترتيب أوراق حساباته إلا وليد الصدق مع النفس وشجاعة الموقف واستحضار الوقوف في يوم الحساب بين يدي ميزان العدالة الإلهية؛ ليفتح لنا باب الأمل والرجاء بالرحمة والمغفرة الإلهية بعد أن تلطّخت أيدينا بالمعاصي والآثام، فإن باب التوبة النصوح لا يغلقه سبحانه في وجه عباده الذين أسرفوا على أنفسهم بالتمادي بارتكاب الذنوب.

في دواخلنا يدور صراع مرير بين جبهة الخير والصلاح وبين جبهة الشرور والعدوان، والميل نحو إحدى الكفتين ينشأ من مرجعية الحاكمية للعقل الواعي والبصيرة الواضحة أو إلى الأهواء والشهوات المتفلتة، والتوبة النصوح انتصار حقيقي للعقل على تعمّق وتغلغل الشهوة وانكشاف للبصيرة عن المصير في الدار الآخرة، وليس هناك من مساند قوي في تلك المكاشفة مع النفس كرؤية تجلي النفوس الطاهرة للأولياء وما تحمله من فيوضات روحية وإيمانية وأخلاقية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى