قبل أن تُطفأ الشموع ماذا ترك الحسين فيك؟

أحمد الطويل
مقدمة:
حين تنطفئ المجالس ويبدأ الامتحان.
انتهت الليالي، وهدأت مكبرات الصوت، ورفعت المجالس الحسينية فراشها بعد ثلاثة عشر يومًا من الحزن والبكاء، التأمل والدعاء، فماذا بعد؟
هل نطوي الصفحة؟ أم نبدأ بها فصلًا جديدًا؟
السؤال لا يوجّه لفئة دون أخرى، بل لكل قلب مرّ على منبر الحسين، من الطفل الذي بكى لرقيّة، إلى الأم التي انكسر قلبها مع زينب، إلى الشاب الذي احترق وجدانه حين سمع عن حكاية القاسم وعلي الأكبر.
ماذا استفدنا من هذه المجالس؟
هل هي فقط للتفريغ العاطفي؟ أم أنها سلاحٌ نخرج به لمجابهة أيامنا؟
في كل عام، تعود كربلاء لتطرق أبواب القلب، ولكن في هذا العام، بعد 13 يومًا، حان وقت الحساب مع النفس: هل غيّرتني؟ هل أصبح للحسين في داخلي مقامٌ لا يُنسى؟
الدنيا التي “لم تكن” درس الزهد والبصيرة
حين كتب الإمام الحسين عليه السلام لأخيه:
“فكأن الدنيا لم تكن، وكأن الآخرة لم تزل، والسلام”
لم يكن يكتب مجرد وصيّة، بل يلقي إلينا مرآة نرى فيها زيف الحياة.
في المجالس الحسينية، تعلّمنا أن ما يشدّنا نحو الدنيا: المال، الشهرة، الغضب، الحقد … كلّه سراب، سيزول كما تهاوت عروش الظالمين تحت سنن الله التي لا تتبدل.
أحداث كربلاء كانت إعلانًا صارخًا: لا تركنوا لما لا يدوم.
فالقاسمُ الذي خرج للقتال وعمره لا يتجاوز 13 عامًا، لم يفكّر في مستقبل دنيوي، بل في لقاء ربّه بوجه باسم.
وفي ذلك درس للرجال والنساء: لا تتعلّق بشيءٍ أكثر من تعلّقك بحقيقتك، بما تبقى معك عند الرحيل.
ثبات زينب وقلبٌ لا يتزلزل
لم نسمع من زينب شكوى، رغم أنها فقدت الجميع.
لكننا سمعناها تقول: “ما رأيتُ إلا جميلًا.”
هذا هو الثبات الذي تزرعه المجالس فينا: أن لا تنهار أرواحنا أمام البلاء.
أن نصبر في المحن، ونقف في اللحظة التي ينهار فيها الآخرون.
أن نعلم أن النصر الحقيقي ليس في الهروب من الوجع، بل في الثبات فيه.
في واقعنا، يمر الإنسان بابتلاءات لا تُحصى: مرض، خيانة، فقر، همّ…
لكن مجالس الحسين تعلّمنا أن لا نغرق فيها، بل نعلو فوقها، كما علت زينب على كل كربها.
دمعةٌ تُغيّر مصيرًا
البكاء في المجالس ليس هدفًا، بل وسيلة للتغيير.
فمن بكى على الحسين ولم يُغيّر في نفسه شيئًا، لم يعرف الحسين.
كل دمعة هي توقيع على عهد جديد مع الله: أن أكون صادقًا، نقيًا، وفيًا، حرًا.
الإمام الصادق عليه السلام قال: “من بكى أو أبكى أو تباكى، وجبت له الجنة.”
ولكن الجنة لا تُنال فقط بالبكاء، بل بما بعده.
لذلك، كانت المجالس فرصتنا لنبدأ من جديد: أن نترك عادة سيئة، أن نُصلح قلبًا، أن نردّ مظلمة، أن نغفر، أن نُصلي صلاة خاشعة واحدة فقط، فذلك بداية ثورة داخلية تشبه كربلاء.
الناس للناس كما كان العباس للحسين
في كربلاء، لم يقاتل أحد لأجله فقط، بل قاتل العباس لأجل الحسين، والحسين لأجل الأمة، والأمة لأجل الحق.
هكذا تُعلّمنا المجالس أن نكون لبعضنا لا على بعضنا.
أن نرحم، نواسي، نُصلح، نُعين.
لم تكن كربلاء مشروعًا فرديًا، بل جماعيًا، فيه النساء والرجال، الشباب والأطفال، العبيد والأحرار، العرب والموالي.
فكل من حضرها، حضر بروحه قبل بدنه.
وكل من حضر المجالس، مطالب بأن يُحيي أثرها في أسرته، في شارعه، في علاقته بزوجه، بابنه، بجاره، بأخته.
الآخرة الحيّة ميزان كل قرار
قال الإمام الحسين عليه السلام: “رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه، ويوفّينا أُجور الصابرين.”
الآخرة ليست فقط وعدًا بعد الموت، بل معيارًا في كل لحظة.
من المجالس الحسينية نتعلّم أن نسأل أنفسنا قبل كل قرار:
هل يُرضي الله؟
هل يُقرّبني من الحق؟
هل يحملني على الخير أم على الهوى؟
هكذا نزرع في يومنا حضور الآخرة، فنعيش بها في السوق، في العمل، في الأسرة، لا فقط في المسجد.
إن كنت صادقًا في بكائك فكن كمن ودّع الطفولة على صهوة الولاء
إن كنت صادقًا في بكائك،
فلا تكتفِ بالدمعة، بل اسألها: إلى أين تقودني؟
هل هي طقس عاطفي؟ أم إعلان ولادة جديدة في زمن الموت البطيء؟
كربلاء لم تكن مأساة، بل مدرسة… لم تكن نحيبًا، بل تعبئة.
فيها القاسم، الفتى الذي ودّع طفولته على صهوة الولاء،
وفيها العباس، الذي لم يُقاتل لأجل نفسه بل لأجل ماءٍ لا يريد أن يشربه وحده.
وفيها علي الأكبر، الذي يشبه النبي خَلقًا وخُلقًا، فيثبت أن أعظم وسامة هي وسامة الروح.
وفيها حبيب، الكهل الذي لم تُثقله السنون، بل شحذها الحسين بالشوق.
وفيها جون، العبدُ الذي صار سيّدًا حين سجد في تراب كربلاء.
وفيها زينب… زينب التي لا تختبئ خلف الحجاب، بل تحمله سيفًا من نور، وتنطق في وجه الطاغية كما لم يفعل أحد.
وفيها سكينة، الطفلة التي لم تفرّ هاربة من الدمار، بل احتضنته وأوصلت رسالته إلى الزمان.
أيّها الشاب… أيتها الشابة…
إن كنت تشبه القاسم، فاحذر أن تكون مُستعبَدًا لثقافة “الترند”.
وإن كنت تفتخر بعلي الأكبر، فلا تخضع لمن يسحبك باسم “الحرية” إلى عبودية الشهوة.
وإن كنت تبكي زينب، فلتكن كلمتك حرةً لا مجروحة، وسترك حصنًا وليس قيدًا.
وإن كنت تحب العباس، فلا تُعطِ يمينك ليدٍ تمضي بك بعيدًا عن الحسين.
مجالس الحسين ما وُجدت لتجعلنا باكين فقط، بل لتكشف لنا:
أن “الفتنة اليوم” ليست في كربلاء، بل في أعيننا، في هواتفنا، في مواقع التواصل، في لحظات الوحدة، في العلاقات الخفية، في القرارات السريعة، في الرغبة أن نكون مقبولين على حساب أن نكون مؤمنين.
هل نعرف الحسين؟
إذا كنا نبيعه لأجل إعجابٍ، أو نُضعف مبادئنا لأجل متابعةٍ، أو ننسى الله لأجل حبٍّ هشّ؟
هل يعقل أن نبكيه ونخونه في أول اختبار؟
أن نندبه في المجالس، ثم نشارك محتوىً يُميت قلوبنا بعد ساعة؟
أن نلطم على مظلوميته، ونظلم أنفسنا بالخيانة اليومية لقيمه؟
إن كنت صادقًا في بكائك،
فلتبدأ أول إصلاحك الآن:
اضبط لسانك.
نقّ علاقاتك.
اضبط بصرك.
اختر من تُرافق.
اجعل كل قرار، في داخلك وخارجك، يتساءل:
هل يرضى الحسين عن هذا؟
كن في ساحة الحرب التي لا تُرى، لا فقط في المواكب التي تُرى.
كن مشروعًا حسينيًا رقميًا وميدانيًا.
تكلّم عن عاشوراء، أنشر وعيها، كن قدوة فيها، قاوم انحرافها بصمتك أو بكلمتك.
واجعل نفسك… حسينيًا قبل أن تكون “حسينيًا”.
فإن من ودّع طفولته في كربلاء، لم يمت… بل وزّع دمه على كل من يشبهه،
وأنت اليوم… تملك فرصة أن تكون واحدًا منهم.
الخلاصة:
حين يُطفأ الضوء، يبقى النور.
انقضت المجالس، وانطفأت الأضواء، لكنّ الحسين لم يغب.
إن كان الحسين مجرد موسم، فقد فاتنا،
وإن كان منهجًا، فما زلنا نخطو خطواتنا الأولى.
لقد علّمتنا المجالس أن الدنيا حلمٌ قصير، وأن البقاء للذين يختارون الله ولو خسروا كل شيء.
رأينا زينب تزرع الطمأنينة في الزلزال، والعباس يفتدي ولم يطلب شيئًا، ورقيّة تبكي في الخربة لكنها ترسم للطفولة معنى البطولة.
فلا تقل إنك حضرت المجالس إن لم تتغيّر، وإن لم تلمس قلبك يدٌ من نور.
ولا تقل إنك بكيت إن لم تنهض بعد البكاء أكثر نقاءً، وأكثر ثباتًا، وأكثر تشبّثًا بالحق.
فحين تُطفأ الشموع، يبقى النور في من حمله عن الحسين، وسار به إلى آخر العمر.
اللهم لا تطفئ في قلوبنا نور الحسين بعد انقضاء المجالس، واجعل لنا من كل دمعة وعيًا، ومن كل ألم طهارة، ومن كل ذكرى ثباتًا على دربه.