مسألةٌ دون ناتج

عماد آل عبيدان
ليست الحياة حساباتٍ جامدة، ولكنها كثيرًا ما تُشبه المعادلات. تلتقي أشخاصًا، فتظنّهم مفاتيحَ باب، فإذا هم أقفالٌ أخرى. تحاول أن تفهمهم خطوةً بعد خطوة، وسطرًا بعد سطر، فتُفاجَأ أن كلّ ما حسبتَه مجهودًا متبادلًا… لا يؤدي إلى شيء.
لا لأنهم معقّدون، بل لأنهم ببساطة: “مسألةٌ دون ناتج.”
ليس كلّ ما يبدو عظيمًا يحمل أثرًا، ولا كلّ حضورٍ يُشبه الحقيقة.
بعض الناس كالإطار اللامع لمرآةٍ معتمة، وبعضهم كالإعلانات الصاخبة: كثيرة التكرار، قليلة النفع.
تمنحهم مساحة من وقتك، من ظنّك الحسن، من قلبك المتيقّن… ثم تُفاجَأ أن كل ما زرعته كان في أرضٍ مائلة.
وهنا تبدأ مأساة الإنسان حين يُخطئ التقدير.
أن ترفع أحدًا فوق قدره، لا يُسيء إليه، بل يُثقلك أنت.
تخسر مرتين: مرة حين تعطيه ما لا يستحق، ومرة حين تستفيق على فراغه.
لقد قررنا، بوعيٍ ناضج، لا انفعالٍ غاضب:
أن نُصلح الميزان، وأن نمنح كل شيءٍ قدره دون زيادة ولا جَور.
لا مجاملة تُفسد التوازن، ولا قسوة تُميت الإنصاف.
أن نُبقي باب الاحترام مفتوحًا، ولكن لا نترك النوافذ مشرعةً لمن لا يعرف كيف يطرق.
الناس في أغلبها لا تريد صدقًا، بل مدحًا.
لا تبحث عن مرآةٍ، بل عن زجاجٍ مزخرفٍ يُجمّل عيوبها.
وإن حاولتَ أن تكون صادقًا، ناصحًا، مُنصفًا… اتُّهِمت بالخشونة، أو أُقصيت باسم “اللباقة”.
ولكنّي على يقين أن الصديق من صَدَقك، لا من صَدّقك،
ومن جرّحك بصدقٍ، خيرٌ ممن أطراكَ بكذب.
وأما الزمن…
فهو أعدل ما في الدنيا، وأقسى ما فيها.
سيُسألك عن وقتك كما تُسأل عن رزقك.
عن أعمار الآخرين التي علّقتها في انتظارك، عن المواعيد التي مرّت دونك، وعن اللحظات التي قطعتَها على غيرك دون عذرٍ بيّن.
وما أشدّ الموقف حين يُقال لك: “كنتَ سببًا في تبديد وعيٍ، أو قتل حماس، أو كسر قلب، لأنك لم تحترم قيمة الوقت كما يجب.”
فلا تؤخّر الناس ثم تتكئ على نواياك.
ولا تعتذر بالمشاغل، فإن المشغول الحقيقي هو من يدير انشغاله بحكمة، لا من يُسلّم نفسه للفوضى ويطلب منك أن تصفّق لها.
ولأني أؤمن أن الجسد يمرض…
فأنا أؤمن أيضًا أن النفس تمرض.
تتعطّل بداخلها بوصلة الإدراك، وتتماهى مع صوتها العالي حتى تُصدّق أنها دائمًا على صواب.
لكنّ الإنصاف يبدأ حين نُبقي في داخلنا فسحةً للخيبة، ومكانًا لاستيعابها.
فلا أحد فوق الخطأ، ولا أحد يستحق الثقة المطلقة.
المطلقات لله وحده.
وغالبًا، لن تُفهَم كما أنت.
يُساء فهمك بين الناس، لأنّ كلٌّ يراك من زاويته، لا من حقيقتك.
قد تكون في عينٍ ملاكًا، وفي أخرى شيطانًا.
قد تهاجَم لا لأنك أخطأت، بل لأنك لم تُرضِ توقعاتٍ لم تصنعها أنت.
وهنا، أنصحك:
لا تُصغِ للمديح كثيرًا، ولا تُبالِ بالذم كثيرًا،
بل كنْ لنفسك الميزان.
تعامل مع أخطائك برحمة، ومع نجاحك بتواضع، ومع الناس بوعيٍ لا يخذل.
وازن بين الصمت والكلام، بين المبادرة والانسحاب، بين الإنصاف واللين.
وإن كنت ممن يكتب، أو يطرح، أو يبني فكرة، أو ينقل رأيًا…
فتذكّر أن ليست كل كلمة تُقال لتُرضي،
وليست كل فكرة تُطرَح لتُغيّر واقعًا،
بعضها يُغرَس كنبض، ينمو بصمت، ويغيّر زاوية النظر لا أكثر.
لكنّ هذا وحده… كافٍ.
وإياك أن تحوّل الغضب إلى جفاء.
ولا أن تجعل من الخلاف أداة هدم.
النقاش لا يعني الإلغاء، والاختلاف لا يقتضي الإقصاء.
وما يُبنى بالوعي، يدوم.
وما يُبنى بالصوت، يسقط.
وأخيرًا…
لا تكرر حلّ المسألة ذاتها وأنت تعلم أن نتيجتها صفر.
لا تُبقِ في حياتك من لا يُضيف.
ولا تهدر في أحدٍ ما لا يستحقه.
ولا تزن الناس بما يقولونه عن أنفسهم، بل بما تبقّى منهم في قلبك بعد غيابهم.
اختر من يُضيء لا من يلمع،
من يُنبت فيك أثرًا لا من يستهلكك صوتًا،
من يصدُقك لا من يصفّق لك.
فالحياة أقصر من أن تُهدرها في معادلات لا تُنتج شيئًا…
وأجمل ما فيها: أن تعرف متى تضع القلم، وتترك الورقة، وتبدأ من جديد…
مع من يستحق أن يُكتَب له سطر…
في دفتر التجربة.