أقلام

العالم بالمقلوب

عماد آل عبيدان

هل ترى العينُ العالم رأسًا على عقب؟

سؤالٌ يبدو للوهلة الأولى مجرد ملاحظة بصرية، تافهة المضمون، أقرب ما تكون إلى طرفةٍ علمية، ثم تكتشف بعد قليل أنها ليست سوى مدخل ضيّق إلى دهليزٍ شاسع، تتقاطع فيه الأعصاب مع الأحاسيس، وتنقلب فيه المعايير كما تنقلب الصورة على الشبكية. نعم، العينُ تراه مقلوبًا… لكن الدماغ يُقوّمه. أما العقول والقلوب، فبعضها بقي كما الصورة: بالمقلوب.

كان زميلي في العمل يضحك في صمتٍ وهو يقرأ منشورًا ساخرًا كتبته على عجل عن أزمة مرورية، حين اقترب أحدهم بوجهٍ عابس وقال:

ـ “كيف تجرؤ على الضحك بينما الناس تموت في الطرقات؟”

شعرت وقتها أن شيئًا غريبًا حدث، كأنك تقرأ جملةً مقلوبة الحروف، أو كأن عقلك عاد إلى نقطة الصفر من الإدراك، ليعيد تشكيل المشهد. الضحك لم يكن على الموت، بل على عبثية الزحام، والساخر لم يكن ساخرًا من الناس، بل من هشاشة التخطيط. ولكن صاحبنا رأى الصورة بالمقلوب… ثم ثبتها على هذا الشكل دون أن يسمح للدماغ أن يعيد ترتيبها.

من هنا بدأت المقالة.

ليس غريبًا أن ترى العيونُ العالم مقلوبًا، ولكنها مصيبة حين تُصرّ العقولُ أن تُبقيه كذلك، أن ترفض التفسير الطبيعي، أن تتشبث بالمقلوب كأنه الصواب، وأن تجعل من كل نيّة طاهرة تهمة، ومن كل سطر إنساني شبهة، ومن كل ضحكة خيانة، ومن كل اختلافٍ عارًا.

في ذلك اليوم، كنت قد نشرت تدوينة بسيطة عن فتاةٍ كنت قد رأيتها تبكي في موقف السيارات بأحد المجمعات. كانت تبكي بصمتٍ، وتمرر أكمامها على وجنتيها بخجل طفولي شجاع. كتبت عن صلابتها، عن كبريائها وهي ترفض أن تنهار أمام المارّة، كتبت عن الجمال الموجع لدمعة لا تجد صدرًا تبكي عليه، ثم ختمت التدوينة بـ: “تحية لتلك الصامدة”.

لم تمضي نصف ساعة، حتى انهالت عليّ تعليقات تقول:

ـ “أنت تتحرش بالكلمات”.

ـ “لماذا تراقب البنات؟”

ـ “ألم تجد ما تكتبه؟”

أقسم أنّ دهشتي يومها كانت أسبق من تعليقاتهم.

لقد رأوا الصورة مقلوبة… ثم صدّقوها، ثم لوّحوا بها كأنها الحقيقة المطلقة.

يا للعجب!

منذ متى صارت الكتابة عن مشهدٍ إنساني خيانة؟

منذ متى صار توثيق المشاعر عبثًا؟

منذ متى صارت العيون تُجرم حين تبصر الألم؟

قلت لأحدهم: “أخبرني فقط، لو أن والدك هو من رآها، هل كان سيُتهم أيضًا؟”

فصمت.

وهكذا، بدأنا نكتشف: المشكلة ليست في الصور، بل في العيون التي ترفض أن ترى سوى الجزء المقلوب منها، وتُخرس الدماغ حين يحاول أن يُقوّم المعنى.

كأننا دخلنا عصرًا جديدًا من الرقابة… لا تفرضه الحكومات، بل تفرضه الجماهير، أو بعضهم على الأقل، ممن تمتلئ رؤوسهم بخلايا ضبابية ترفض النور.

وفي المجتمع، لا تسير الأمور أفضل.

ترى أمًا تضحك مع ابنها في السوق، فيُقال عنها “خفيفة”.

وتلمح أبًا يحضن ابنته بفرح، فيُقال “لا يليق بكبار السن وكأنه تمثيل أمام الناس لتلتقط لهما صورة!”.

ويكتب فنان عن الحب النقي، فيُقال “هذا انحراف”.

وتحاول فتاة أن تبدع، فيُقال “تريد لفت الانتباه”.

وتنشر معلّمة صورة لدرسها المبتكر، فيُقال “تتفاخر”.

كأننا بتنا نقرأ وجوه الناس بالعكس، فنشتم الابتسامة، ونخاف من النور، ونُدين اللطف، ونشكّ في النوايا، ثم نطالبهم أن يُثبتوا براءتهم من أشياء لم يرتكبوها أصلًا.فأنتَ مُتهم حتى تثبت براءتك!!.

هل تصدق أنني كتبت ذات مرة نصًا عن أمي؟ كتبت فيه:

“كانت أمي تصنع لي السندويتشات بقلبٍ لا يُرى، وتضع في الخبز أمنيات أن لا يقتلني الزحام.”

فقال أحدهم:

ـ “مبالغ فيه! كأنك تصف ملاكًا، كل الأمهات هكذا… لا جديد.”

يا الله، أي جفافٍ هذا؟!

كأن المطلوب منّا أن نصمت، أو أن نكتب دون روح، أو أن نبرمج كلماتنا وفق ما يُرضي الباهتين.

ليست المعضلة في اختلاف الآراء، بل في قلب المشاهد، في سلخها عن معناها، وفي إرغامنا على تبرير حتى المشاعر الصافية. من فرحٍ نحتاج لإجازة شرعية، ومن حزنٍ نكتب تقريرًا، ومن سطرٍ جميل نُطلب بكشف نوايانا.

ألم أقل لكم إن الصورة تُرى مقلوبة؟

لكن العيون وحدها ليست المذنبة، بل نحن الذين كففنا عن استخدام دماغنا الذي اعتاد منذ آلاف السنين أن يصحح لها الاتجاه، وأن يُقوّم المعنى، وأن يُعيد للصور بُعدها الإنساني الصحيح.

ولذا، دعوني أخبركم:

إننا نعيش عصرًا يجلد فيه الناسُ الجمالَ بتهمة الادّعاء، ويُصادرون فيه الفرح بدعوى الاستعراض، ويقتلون النقاء باسم الفضيلة، وينكرون الخير بذريعة أنه مُفبرك.

ولكن، صدقوني… ما يزال بعضنا يرى الأمور كما هي، وما تزال بعض القلوب تُعيد تثبيت الصور في مكانها الصحيح، تُعيد للنصوص رونقها، وللوجوه معناها، وللضحكات نُبلها.

العين قد ترى العالم مقلوبًا…

ولكن الإنسان الحقيقي، هو من يُعيد للعالم توازنه، كلّما اختلّ في العيون.

هذه المقالة كتبتها لأجلك أنت، الذي تقرأ الآن، لا لكي تُعجب بها، بل لتتذكر:

أنك حين تضحك، أو تحزن، أو تكتب، أو تحب، أو توثق مشهدًا عابرًا، فأنت لا ترتكب جريمة.

أنت فقط… ترى العالم كما هو، لا كما يريد الآخرون أن تقرأه.

فلا تعتذر عن بصرك السليم…

ولا تبرر عاطفتك الصافية…

ولا تشرح قلبك… لمن اختار أن يراك بالمقلوب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى