وثيقةٌ دون شهود حُكمٌ على الحياة من طرفٍ واحد

عماد آل عبيدان
ليس كل من تألم مظلومًا،
ولا كل من صمت مذنبًا،
ولا كل من كتب الحكاية… كتب الحقيقة.
فالقصص حين تُروى من جهة واحدة، لا تضيء المشهد، بل تُسلّط الضوء على نصفه، وتترك النصف الآخر في ظلالٍ كثيفة، لا يرى منها الناس إلا ما يشتهون تصديقه.
في مجتمعاتنا، لا يزال يُحكم على الوجوه بالصورة، ويُفسّر الصمت على أنه إدانة، ويُخلط بين البكاء والبراءة.
أصبح من السهل جدًا أن يُبنى جدارٌ من العاطفة حول طرف، ويُلقى الآخر خارجه، حتى دون أن يُعطى فرصة للكلام.
وثيقة واحدة، منشور واحد، سطر عاطفي مكتوب بعناية… يكفي ليُشعل الرأي العام، فينقسم الناس كما لو كانوا قضاة وقد حضرتهم البيّنة.
ولكن، هل حقًا سمعنا الطرفين؟
هل جلسنا في قلب الحكاية، ورأينا المجريات كما حدثت، لا كما نُقلت؟
هل وقفنا بين الغرف المغلقة، وسمعنا الأنفاس المتعبة، والنقاشات المكرّرة، والخذلان الذي لا يُقال؟
أبدًا… لم نكن هناك. نحن فقط قرأنا، أو سمعنا.
ولكننا، رغم ذلك، لم نكتفِ بقراءتها أو سماعها.
بل فسّرنا، وأصدرنا الأحكام، ووزّعنا التهم، وكتبنا نهاية القصة كما أردنا لها أن تكون.
كلٌّ يجرّ النار لقرصه.
وكل طرف في الأزمات العاطفية يرى الحق معه.
ولو سألت كلًا منهما على حدة، لوجدت نفسك أمام روايتين متكاملتين، كل منهما تجعلك تتعاطف… وتشكّ.
وهنا تكمن المعضلة:
ليس لأن أحدهما كاذب بالضرورة، بل لأن الحقيقة… لا تُرى بعين واحدة.
ولأقرب الصورة، دعني أحكِ لك حكاية واقعية:
رجلٌ خلوق، مشهود له بالأدب، حسن المعاملة، عُرف بين الناس بهدوئه وكرمه واحترامه لزوجته.
كانت مشكلته الوحيدة… أنه رفض أن يُقاد.
أن يكون نسخة مكررة من “زوج والدتها”، الذي يمشي متى أُمر، ويصمت متى طُلب، ويُجيب بـ “إن شاء الله” متى قالت “اذهب أو افعل”.
أم الزوجة كانت ذات شخصية قوية، ترى أن من حق ابنتها أن تملك زوجها كما تشاء.
والزوجة، بدورها، لم تتمرد على هذا التصور.
كانت تنقل ما يُقال في بيت أهلها كما هو، وتُنفذ توجيهات والدتها كما لو كانت قوانين لا تقبل النقاش.
أما الزوج، فكان واضحًا: “أنا شريك حياة… لا خاتم.”
بدأ التوتر…
ثم جاء الطلب الأول: الطلاق.
رفضه، حفاظًا على بيته، وأطفاله، واحترامًا للحياة التي بينهما.
ثم أُعيد الطلب بصيغة أخرى: خلع.
وفي قاعة المحكمة، انفجرت الاتهامات:
– يضربني
– بخيل
– يشتم
– يستمع لأمه
– يريد التشهير بي
ولكن القاضي – بعد سماع الشهود ودراسة المعطيات – رفض جميع التهم لعدم وجود دليل واحد عليها،
حتى في الكلام عن البخل، إذ كان زوجها يصرف على دراستها الجامعية من ماله الخاص، وهو ما لا يُلزمه الشرع به أصلًا، فكيف بباقي الواجبات؟!
حتى أن من يعرف الزوجة، ويحبها، شهد باستقامة الرجل، ونُبله، وصمته المهذب.
لم يتكلم. لم ينشر. لم يردّ.
وفي الخارج، كان الناس يقرؤون… ويستمعون… ويصدقون… ويقضون.
من هنا نكتب. لا لنبرئ هذا أو نُدين ذاك،
بل لنقول:
كفى حُكمًا من طرفٍ واحد.
كفى انحيازًا للعاطفة دون تحقق.
كفى جعل الألم وثيقةً دامغة، والصمتَ اعترافًا.
ليس كل من يشتكي على الملأ صادقًا،
وليس كل من يصمت خجولًا أو مريبًا.
بعض الصمت… شهامة.
وبعض الضجيج… تمثيل.
هل تعلمون ما هو الأشد قسوة من الطلاق؟
أن يُحمّل أحدهم وزر قصة لم تُسمع منه،
وأن يتحوّل من شريك حياة إلى متّهم مدى الحياة… فقط لأنه لم يُحسن استخدام اللغة العاطفية في الدفاع عن نفسه.
نحن لا نكتب لننكر معاناة أحد،
ولا لنشكك في صدق من تألم،
بل نكتب لأن الحقيقة لا تكتمل بمنشور،
ولا يُبنى العدل على ما يُقال دون تحقق.
فكم من رجل طُعن في سمعته وهو مظلوم؟
وكم من امرأة أُسقطت كرامتها وهي البريئة؟
وكم من بيتٍ احترق، لأن الناس ظنوا أنفسهم قضاة، وهم لم يسمعوا سوى طرفٍ واحد؟
فلنقلها بوضوح:
البيوت لا تُبنى بالعناوين، ولا تنهار بالدموع وحدها.
بل تُهدّم حين يتكلم أحدهم… ويُدان الآخر بصمته.
أعطوا القصة فرصة أن تكتمل،
والقلوب فسحة أن تفهم،
والمجتمع جرأة أن يقول:
“ لا نعلم… لذا لن نحكم.”
إن كان لا بد من موقف…
فليكن موقف العدل، لا التهويل.
موقف التريّث، لا التحريض.
موقف الإنسان، لا المتفرّج المتعطش للحكاية.
وفي النهاية…
كلنا نريد إنصافًا.
لكن الإنصاف لا يُبنى بالتعاطف وحده.
بل بسماع الحقيقة كاملة، وحكمة الإصلاح من أهلها… حتى لو صمت أحدهم عنها.