أقلام

سرّ الدقة المذهلة في الكون: من أين جاء هذا النظام؟

أحمد الطويل

مقدمة:

بين برهان النظم ونور الهداية.

في لحظة تأمل صادقة، حين يسكن الضجيج وتصفو النفس من الشواغل، قد تقف أمام السماء المترامية وتتساءل: من الذي رسم هذا الاتساق العجيب؟ من الذي جعل الشمس لا تسبق القمر، والنجوم لا تزيغ عن مسارها؟

هل هي الطبيعة؟ هل هي مجرد قوانين؟ وهل لهذه القوانين عقلٌ وإرادة؟

أم أن وراء هذا الإتقان إرادةٌ أعظم، وعلمٌ أوسع، وقدرةٌ لا تحدّ؟

أسئلة كهذه ليست ترفًا فلسفيًّا، بل نداءات فطرية أصيلة، تخرج من أعماق الإنسان حين يُصغي إلى ما فُطر عليه، وتوقظ فيه أشواق البحث عن الحقيقة، إن لم تكممها الغفلة ولم تطمسها العادة.

حين يتكلم الكون بلغة النظام

أن تنظر إلى الكون ككتاب مفتوح، يعني أن تقرأ كل صفحة من صفحاته على أنها فصل من فصول المعجزة.

من حركة الكواكب، إلى تركيب الذرّات، إلى تناغم عناصر الحياة، كل شيء يخضع لنظام.

الأرض تميل بمحور دقيق ليحفظ تعاقب الفصول.

تركيبة الهواء مثالية للحياة، ولو اختلت قليلاً لانعدمت الحياة.

الحمض النووي في خلية واحدة يحتوي على مليارات المعلومات المنظمة في تسلسل متقن، وكأنها مكتبة ضخمة في نقطة لا تُرى.

القرآن يشير إلى هذا الإحكام في مواضع عديدة، لا من أجل التسلية، بل لتوجيه العقل نحو المعنى الأعلى: {إنا كل شيء خلقناه بقدر}، {الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى}، {صنع الله الذي أتقن كل شيء}. هذا كله ليس عبثًا. ليس نتاج مصادفة عمياء. بل هو بيان ناطق بأن وراء هذا الصنع المتقن صانعًا حكيمًا.

إشارات أهل النور

لم يكن أئمة أهل البيت عليهم السلام غافلين عن هذا الباب العظيم، بل وجّهوا إليه الأذهان والقلوب بلغةٍ روحانية تربط العقل بالإيمان، والتفكر بالخشوع.

جاء عن الإمام علي (عليه السلام) قوله: “تفكروا في خلق الله، ولا تفكروا في الله، فإنكم لا تقدرون قدره.”

إنه يرشدنا إلى طريق آمن: أن ننظر إلى آثار الصنعة لندرك بعض عظمة الصانع، دون أن نخوض في ذاته التي لا يُحيط بها عقل.

وفي رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) حين تحدث عن العقل، صوّره لا كمجرد أداة، بل كأول مخلوق وأعظم ما يحبه الله من عباده، قائلاً في حديث طويل: “وعزّتي وجلالي، ما خلقت خلقًا أحب إليّ منك.”

فالعقل في مدرسة أهل البيت ليس خصمًا للإيمان، بل طريقه الأسمى. وكلما أُطلق هذا العقل في رياض التفكر، اقترب من باب المعرفة الإلهية.

حين ينطق العقل

العقل الإنساني السليم حين ينظر إلى هذا الكون لا يرى مجرد حركة، بل يرى هدفًا. لا يرى صدفة، بل يرى تخطيطًا.

وحين يجد نظامًا دقيقًا في آلة أو كتابة منظمة، لا يقول: “جاءت وحدها”، بل يقول: “من صنع هذا؟ من نظّمه؟”.

فإذا كان ذلك في أبسط الأشياء، أفلا يكون من الأولى أن نطرح السؤال نفسه عند رؤية هذا الكون الهائل؟

هل من المعقول أن تنشأ ملايين المنظومات الدقيقة التي يعمل بعضها مع بعض دون أن يكون لها خالق؟

برهان النظم هنا يقود العقل خطوة خطوة نحو الإيمان بوجود منظِّم عاقل حكيم.

وقد تبناه الفلاسفة والحكماء المسلمون، ومنهم صدر المتألهين الشيرازي، الذي قال إن الوجود المنظَّم لا يمكن أن يصدر عن الممكن الصرف، بل لا بد أن يصدر عن واجب الوجود الذي يعلم ويقدر ويحكم.

لا تخدعنا العناوين العلمية

قد يظن بعض الناس أن التطورات العلمية أزاحت الحاجة إلى الإيمان بالخالق، وأن قوانين الطبيعة وتفسيرات البيولوجيا كفيلة بشرح كل شيء.

ولكن الحقيقة أن كل قانون نكتشفه، هو في حدّ ذاته شاهدٌ على وجود منظِّم.

فالقانون يحتاج إلى من وضعه، وتماسك المادة يحتاج إلى من ربط أجزاءها، واستمرار النِّسَب الحيوية في الكون بدقة مذهلة يشير لا إلى الفوضى، بل إلى إرادة واعية تتحكم وتدبّر.

حتى نظريات كـ”الانتخاب الطبيعي” تفترض وجود منظومة يعمل فيها الاختيار، ولكنها لا تفسر من وضع الأسس الأولى لهذه المنظومة.

وهكذا، كلما تعمق العلم، ازداد شهود العقل على أن هذا العالم لم يُترك للمصادفة، بل صُمّم بإتقان، وخلق بحكمة، وقُدّر بعلم.

معرفة المنظّم: أبعد من مجرد الإثبات

نحن لا نقف عند حد القول بأن هذا النظام يدل على وجود خالق، بل ننظر إلى ما وراء ذلك: من هو هذا الخالق؟ وما صفاته؟

حين يتأمل العقل في دقة الخلق وجماله وانسجامه، لا يمكن أن ينسب ذلك إلى موجود جاهل أو عاجز.

بل لا بد أن يكون هذا الخالق عالمًا لا يجهل، وقادرًا لا يعجز، وحكيمًا لا يعبث.

فالإتقان الشامل يستلزم العلم الكامل.

والتنظيم المتقن يستلزم القدرة غير المحدودة.

وانتفاء العبث في الوجود يدل على الحكمة البالغة.

هذا الفهم لا ينبثق فقط من النصوص، بل من صميم التجربة العقلية المتأنية، التي حين تُفتح بنور القرآن وهدي أهل البيت، تثمر إيمانًا لا يتزعزع، وحبًا لا ينفد.

وقد أشار أمير المؤمنين عليه السلام إلى هذا المعنى العميق حين قال: “لو فكّروا في عظيم القدرة، وجسيم النعمة، لرجعوا إلى الطريق، وخافوا عذاب الحريق، وبصروا من الأبصار ما دلهم عليه من آثار الصنعة.”

إذ ليست الغاية من التأمل علمًا جافًّا، بل يقظة تقود إلى الله.

من النظم إلى الحب

وحين تنكشف الحقيقة، لا يعود الإيمان بالله مجرد نظرية عقلية، بل يتحول إلى يقين حيّ في القلب، يتغذى من التأمل، ويزدهر في النفس حبًا وخشوعًا.

فالكون لم يُصمَّم فقط ليكون دليلًا على وجود الله، بل ليكون رسالة حبٍّ مستمرة تقول للإنسان: انظر حولك هذا الجمال لك، هذا الإتقان من أجلك، وهذه النِّعَم طريقك إليّ.

وهنا تتلاقى الفطرة والعقل والنص في نشيدٍ واحد: الله هو الحق، وهو الجمال، وهو الهدف.

وقد لخّص القرآن هذا المقصد بأبهى بيان، حين ربط التفكر في الخلق بنداء التوحيد والخشية {ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلًا سبحانك فقنا عذاب النار}.

الخلاصة:

منذ أن طُرح السؤال الكبير عن سرّ النظام في هذا الكون، كنا نسير في رحلةٍ عبر الدقة المذهلة التي تحكم الوجود، نتلمّس فيها إشارات العقل، وهمسات النصوص، ونداءات الفطرة.

لم يكن هدفنا أن نُثبت وجود خالق فحسب، بل أن نصل إلى معرفة صفاته، وأن نستلهم من هذا النظام دعوةً للحب والخضوع.

وفي كل محطة فكرية من هذه الرحلة المعرفية، بان أن النظام الكوني ليس فقط دليلًا على الصانع، بل رسالة ناطقة بالعناية والحكمة.”

وحين يتناغم العقل مع هدى القرآن وكلمات أهل البيت، يتجلّى الإيمان لا كإلزام فكري، بل كمحبة واعية وسكينة مطمئنة.

وهكذا، ما بين النظرة الأولى إلى السماء، والتفكر في أصغر خلية، تتوحّد الحقيقة في القلب والعقل: أنّ هذا الكون صنع إله حكيم، يدعو عباده إليه من خلال آياته، وينتظر منهم أن يلبّوا نداءه بتفكّرٍ، ويقين، وانقيادٍ صادق.

اللهم يا من دلّت على وجودك دلائل خلقك، وأشارت إلى عظمتك آثار صنعك، وجعلت في كل شيء لك آية، افتح لنا أبواب المعرفة بنورك، وثبّت قلوبنا على الإيمان بك، واجعلنا من عبادك المتفكرين، لا من الغافلين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى