أقلام

لعبة الفهد – الحلقة الثالثة عشر: الهروب إلى العزلة الخرسانية

إبراهيم الرمضان

في نهار اليوم التالي، كانت النيران قد انطفأت تمامًا، ولكن آثارها ظلت محفورة في الأرض والذاكرة.

لم يكن إخماد الحريق سهلًا، فقد التهم كل شيء، لم يترك سوى أطلال سوداء، وجدران متفحمة، الذي كان أكثر من مجرد ٥ نجوم، لم يكن يومًا سوى كابوسٍ من ٥ طبقاتٍ من الرعب، تجسد للحظات، ثم احترق وتلاشى.

وفي الجهة الأخرى، حيث كانت ناهد قد ألقت بنفسها وسط ألسنة اللهب في مشهد مأساوي، كان رجال الدفاع المدني يمشطون المكان، يبحثون عن أي أثر لها أو لفهد.

أما أبو فهد، الذي وصله الخبر الصادم عبر أبي موسى، فقد جلس على الأنقاض التي كانت يومًا ما مبنى مستأجرًا للموظفين، يجلس في صمت، يراقب المشهد بعينين تحملان تساؤلات لا يجد لها إجابة.

كان بجانبه ابنه علي، الذي بدا عاجزًا عن الكلام، مكتفيًا بالنظر إلى الركام بعينين غارقتين في الحيرة والخوف. وعلى بعد خطوات، جلس عوض منهارًا تمامًا، جسده مُثقل بالألم، بينما خالد كان يحاول جاهدًا التخفيف عنه، رغم أنه هو الآخر كان يخوض معركته الخاصة ضد الإحساس بالعجز.

في تلك اللحظة، كان الجميع ما يزال في حالة من الذهول والصدمة. رجال الدفاع المدني بدوا حائرين، لا تفسير لديهم لما يحدث. لا أثر لجثث، لا بقايا يمكن التعرف عليها، لا شيء سوى رماد ممتد كأنه طمس كل ما كان هنا… غادر رجال الدفاع المدني المكان بعدها.

أما بعض موظفي الحراسات الأمنية، فقد اجتمعوا في نفس المكان الذي اعتادوا أن يجلسوا فيه قبل وقوع الكارثة، بجانب خالد الذي كان يحدق في اللاشيء بشرود. قاطعه أحد الحراس بابتسامة ماكرة وهو يربت على كتفه:

– طالما مزاجك سيئ يا عم… هل ستحتاج إلى طبق جديد من حساء الشوفان بالخضار؟

رفع خالد رأسه فجأة، ورد عليه بعبارة عجائزية تلقائية دون أن يدرك الفخ الذي وقع فيه بحماقته. عندها، ابتسم الحارس ضاحكًا:

– كان شكي في محله، خاصة بعد أن ظهرت فجأة كمكلف بمهام رئيس التشكيلات الإدارية! صحيح أنك أتقنت الدور، ولكن نبرة صوتك كانت مألوفة لي.

ثم ربت على كتفه بابتسامة مليئة بالامتنان:

– على كل حال، لولا أنك تجرأت على تقمص دور رئيس التشكيلات الإدارية وإصدار أوامر الإخلاء، لكنا الآن بين الرماد!

تدخل آخر وهو يربت على الكتف الآخر لخالد:

– صحيح! لقد أنقذت الجميع بحركتك هذه، لا ندري كيف سنشكرك على ذلك.

تنهد خالد، ثم قال بأسف:

– حسنًا… على الأقل نجا الجميع بسبب هذا الدور. ولكنني لا أستطيع أن أرتاح وأنا أفكر في ناهد… أشعر أني مسؤول عما حدث، كان علي أن أوضح لها شخصيتي الحقيقية عندما رأيتها في المطبخ. ظننت أنها ستخرج مع البقية، ولكنها لم تفعل.

ساد الصمت للحظات، قبل أن ينطق خالد بصوت خافت، وكأنه يتحدث إلى نفسه:

– هل يُعقل… أن النيران قد طمستهما تمامًا؟ لدرجة لم تبقِ منهما حتى الرماد؟

كانت هذه الفكرة وحدها كافية لزرع الرعب في قلوبهم…

كان أبو موسى جالسًا قرب أبي فهد، يلتفت إليه بقلق متزايد:

– هل من المعقول عدم وجود أي مكان معزول بالفندق يمكن أن يكونا فيه؟

استوقفت أبو فهد كلمة “معزول”، فتذكر على الفور حواره السابق مع فهد حول القبو وطبقات الخرسانة العازلة. التفت بسرعة إلى خالد وسأله بلهفة:

– -ألا تزال خرائط الفندق بحوزتكم؟

أجابه خالد وهو يسترجع الموقف:

− نعم، موجودة في جهاز الحاسوب المحمول الذي استخدمه فهد للاتصال افتراضيًا بـX-Shadow أثناء مشاركة الشاشات.

− أحضره لي فورًا!

لم يتأخر خالد، فأحضر الجهاز على الفور، وفتحه أبو فهد بسرعة وهو يتصفح الخرائط بعناية، يمرر أصابعه فوق المخططات الإلكترونية، يركز على كل التفاصيل الدقيقة.

وبعد لحظات من التدقيق، تمتم بابتسامة وهو يهز رأسه:

– ربما “المقاول الفاسد” الذي صمم نظام الإطفاء لم يكن الوحيد الذي تعامل معه أبو مشاري… ولكن الغريب أن نظام الأمان والبناء للقبو مصممان بإحكام.

رفع نظره إلى من حوله وأضاف بثقة:

– لعل هذا هو النزيه الوحيد الذي اضطر أبو مشاري للتعامل معه! يبدو أن شخصًا ما أصر على تنفيذ معايير السلامة بجدية، وهذا قد يكون الشيء الوحيد الذي لم يتمكن أبو مشاري من التلاعب به.

ثم أشار إلى بعض النقاط الحرجة في المخطط وهو يشرح:

– جدران القبو مشيدة بمواد مقاومة للحريق، وفتحات التهوية مزودة بحواجز أوتوماتيكية تنغلق عند استشعار الدخان… رغم كل العيوب في نظام الإطفاء، إلا أن البنية التحتية للقبو كانت محمية ومتينًة للغاية.

أحد الحراس، وقد ارتسمت على وجهه نظرة تفكير عميق:

– إذا كان القبو بهذه القوة، فقد يكون هو الملاذ الأخير لأي شخص كان عالقًا في الداخل… السؤال هو، هل تعتقد أن فهد أدرك ذلك؟ وهل كان لديه الوقت الكافي للوصول إليه؟!

ابتسم أبو فهد بثقة، وأجاب دون تردد:

– فهد لم يكن ليغفل عن ذلك أبدًا… لقد درس هذه الخرائط مرارًا وتكرارًا، دون شك، أدرك هذه الحقيقة قبل أي شخص آخر!

بينما كان الجميع يحدق في المخططات، أشار أبو فهد إلى ممر ضيق بجوار المطبخ، بالقرب من المكان الذي قذفت ناهد نفسها منه.

أبو فهد، وهو يشير إلى نقطة محددة في الخريطة:

– هذا هو المدخل الأقرب إلى القبو! ولكن… هناك مشكلة. هذه ليست مجرد بوابة عادية، إنها باب أمان طوارئ مضغوط، مصمم ليعمل كغرفة عزل في حالات الطوارئ القصوى، مثل الحرائق أو تسرب الغازات السامة.

أبو فهد، وهو يتابع القراءة في المخطط:

– هذه الأبواب لا تُفتح بسهولة، بل تحتاج إلى إجراء محدد للغاية… بحسب المواصفات، لا يمكن فتحها إلا بإحدى الطريقتين: بصمة أحد المسؤولين المخولين بالدخول إلى القبو، وعادةً ما يكونون فريق الصيانة الرئيس للفندق. وعن طريق تفعيل نظام الطوارئ الداخلي، والذي يُفتح فقط عندما يكتشف الحساسات أن الضغط داخل الممرات أصبح غير آمن ويتوجب إخلاء الهواء.

أبو فهد، وهو يمعن النظر في التفاصيل:

– فهد ذكي… لو علم مسبقًا بوجود هذا المدخل، فلا شك أنه خطط لطريقة لدخوله.

عوض، الذي بدأ يتمسك بأي أمل:

– هل من الممكن أن تكون ناهد قد فعلت ذلك؟

خالد، وهو يضرب جبهته مدركًا:

– هناك احتمال! ناهد كانت تعمل داخل الفندق، ومن خلال حديثها معي سابقًا، كانت مكلفة ببعض المهام في المطبخ، ربما استطاعت الاطلاع على طرق فتح هذه البوابة بحكم عملها!

أبو فهد، وهو يغمض عينيه للحظة:

– كما أنه من المؤكد أن الباب كان يفتح ويغلق عدة مرات نتيجة نقص الأكسجين خلف البوابة، ربما استغلا ذلك أيضًا، إذا كانا قد نجحا في دخول هذا القبو… فهناك فرصة جيدة أنهما نجياا! ولكن السؤال الأهم الآن… كيف سنفتح هذا الباب من الخارج الآن؟!

فكر أبو فهد قليلًا، ثم قال بابتسامة:

– نحن بحاجة إلى رفع حرارة الممر أو تقليل نسبة الأكسجين بشكل لحظي ليعتقد النظام أن المكان بحاجة إلى تهوية… وعندها ستفتح البوابة تلقائيًا!

أحد الحراس، وهو يشير إلى أدوات الطوارئ المتوافرة:

– يمكننا استخدام أسطوانة غاز ثاني أكسيد الكربون المخصصة لإخماد الحرائق… إذا ضخخنا كمية كبيرة منها في ممر التهوية القريب من القبو، ستنخفض نسبة الأكسجين بسرعة، مما سيجبر النظام على تفعيل وضع الطوارئ وفتح البوابة تلقائيًا.

عوض، وهو يقف مستعدًا:

– دعوني أقوم بالأمر، سأستخدم الأسطوانة وأضخ الغاز فورًا!

أبو فهد:

– حسنًا، بمجرد أن يبدأ ضخ الغاز، سنراقب الحساسات هنا، وبمجرد أن تبدأ بإظهار نسبة منخفضة من الأكسجين، سنكون مستعدين للتحرك فورًا!

تسلم عوض أسطوانة إخماد الحريق! يتدفق الغاز بكثافة عبر أنابيب التهوية المؤدية إلى القبو، مما يخفض الأكسجين بسرعة!

بدأت أجهزة الاستشعار تصدر إنذارًا! النظام يقرأ أن هناك نقصًا في الهواء داخل القبو!

الباب المغلق يُصدر صوتًا ميكانيكيًا، ثم يبدأ في الفتح ببطء…

– إنه يفتح!! أسرعوا، لدينا 60 ثانية فقط قبل أن يُغلق مجددًا!

أبو فهد يقفز إلى الداخل بسرعة، يليه أحد الحراس! الباب ينغلق خلفهم تلقائيًا مع انتهاء دورة التهوية! الآن هما داخل القبو…

الحارس يُضيء المصباح اليدوي الذي كان بحوزته، فالمدخل كان مظلمًا تمامًا، بالكاد استطاعا رؤية خطواتهما. كان الهواء هنا باردًا، هادئًا بطريقة مريبة، وكأن هذا المكان معزول عن كل الفوضى التي تحدث في الأعلى.

تقدم أبو فهد بخطوات حذرة، يسير لمسافة قصيرة، حتى وجد أمامه بابًا آخر، بابًا معدنيًا محكم الإغلاق.

الحارس يهمس وهو يضع يده على المقبض:

– يبدو أنه باب داخلي… هل نفتح؟

أبو فهد، وهو يأخذ نفسًا عميقًا:

– بكل تأكيد!

ببطء، دار المقبض، ثم دفع الباب… وما إن فُتح، حتى اندفعت أمامهم إضاءة خافتة! لم يكن المكان مظلمًا كما توقعوا، بل مضاءً… وكما كان يأمل أبو فهد، لم تصل النيران إلى هنا على الإطلاق!

بعد أن اجتازا الباب، وقف الحارس للحظة، يلتقط أنفاسه بعد أن أطفأ المصباح اليدوي، ثم التفت إلى أبي فهد، الذي كان يحدق بالمكان بتمعن.

– أين نبحث الآن؟ هذا المكان واسع، وقد يكونان في أية زاوية!

أبو فهد، بعد تفكير سريع:

– إذا كنتُ مكان فهد، فأين سأذهب؟

أخذ بضع خطوات سريعة، ثم توقف فجأة! نظر إلى الحارس بعينين متسعتين وكأنه أدرك شيئًا مهمًا:

– غرفة خزان الماء! المكان الأكثر أمانًا هنا… الماء والأنظمة العازلة ستجعلها أبرد مكان في القبو، كما أن الهواء فيها أكثر نقاءً، وإذا كانا يبحثان عن الأكسجين بعيدًا عن الدخان المتسرب، فهذه وجهتهما المثالية!

الحارس يسرع خلفه، يفتحان باب الغرفة… وأخيرًا… وجدا فهد وناهد!!

المكان بارد مقارنة بالخارج، والخزان يبعث رطوبة خفيفة في الأجواء، مما جعل الهواء ثقيلًا كأن الضباب يملأ المكان. عندما فتح أبو فهد والحارس باب الغرفة، تنفس الأول الصعداء… لقد وجدهما!

كان مستلقيًا على الأرض، وناهد تجلس بجانبه، تمسح آثار الجروح والرضوض والحروق عن جسده بالأقمشة التي وجدتها في القبو، مستفيدة من المياه الموجودة في الخزان.

أبو فهد، وهو يقترب منها بقلق:

– كيف حاله؟ هل هو بخير؟

ناهد، بصوت متعب ولكنه مطمئن:

– الحمد لله… لا شيء خطير، مجرد جروح وحروق سطحية…

نظر أبو فهد إلى وجهها، كانت عيناها حمراوين، والدموع جافة على خديها… واضح أنها بكت كثيرًا!

أبو فهد، محاولًا استيعاب ما حدث:

– كيف وصلتما إلى هنا؟

ناهد، وهي تحاول أن تلتقط أنفاسها:

– عندما قفزت وسط النيران، وجدته فاقد الوعي، كنت أصرخ وأحاول هزه ليستفيق… وبعد لحظات، فتح عينيه أخيرًا.

ابتسمت رغم الإرهاق، ثم أكملت:

– رغم إصابته، كان أول ما فعله أن يرشدني إلى بوابة الطوارئ… قال إنها ستنفتح حتمًا عند نقص الأكسجين، وطلب مني أن أساعده للوصول إليها.

أبو فهد، بابتسامة مطمئنة وهو ينظر إلى ناهد:

– المهم أننا وجدناكما سالمين، هذا كل ما يهم الآن.

ثم التفت سريعًا إلى الحارس بجانبه:

– اذهب وأبلغ البقية أننا عثرنا عليهما سالمين، وستجد بجانب البوابة أزرارًا يمكنك استخدامها لتعطيل الإغلاق التلقائي… اجعلها مفتوحة بشكل دائم حتى نتمكن من الخروج بسلاسة.

أومأ الحارس برأسه ثم توجه بسرعة نحو البوابة لتنفيذ المهمة، تاركًا أبا فهد وناهد يراقبان فهد بانتظار أن يستعيد وعيه مجددًا.

لاحظ أبو فهد الاهتمام العميق الذي ينعكس في عيني ناهد وهي تحدق بفهد… كان واضحًا أن هناك شيئًا أعمق من مجرد الامتنان. نظر إليها للحظة، ثم سألها بهدوء، وهو يحاول استيعاب ما يراه:

– أفهم أن فهد ساعدك… ولكن، لماذا كل هذا؟ أهل الحي الذي نعيش فيه أغلبهم يكرهونه، حتى قبل أن يُسجن. لماذا أنت مختلفة؟ لماذا خاطرتِ بحياتك وألقيتِ بنفسك وسط النيران لأجله؟

ناهد، وقد شردت للحظات وكأنها عادت بالزمن إلى الوراء، ثم أخذت نفسًا عميقًا وقالت بصوت متهدج:

– عندما كنت صغيرة، كنتُ ألعب أمام منزلنا، كأية طفلة لا تفكر في المخاطر، ولكن فجأة، توقفت سيارة بجانبي، خرج منها رجل لا أعرفه، أمسكني بسرعة وحاول أن يجرني إلى الداخل!

شهق أبو فهد، بينما أكملت ناهد بصوت مليء بالرهبة:

– صرخت، بكيت، ضربته بكل قوتي ولكن لا فائدة… كان أقوى مني، كنتُ مجرد طفلة لا حول لها ولا قوة، شعرت أنني انتهيت، أنني لن أرى والديّ مرة أخرى… ولكن فجأة سمعت صوتًا من خلفي!

نظرت إلى فهد النائم بجانبها، وعيناها تلمعان بمزيج من الإعجاب والامتنان:

– كان هو… فهد! لم يكن لديه أي سلاح، لم يكن أقوى من ذلك الرجل، لكنه لم يتردد للحظة، انقضّ عليه كالوحش، ضربه بكل قوته، سحبه بعيدًا عني، لكمه مرارًا رغم أن الرجل كان أكبر وأضخم… كنت أسمع صراخ الرجل وهو يحاول التخلص منه، لدرجة أنني وجدت أن الأرض أصبحت تبتل بدمائه، لكن فهد لم يتركه حتى تأكد أنه لن يستطيع الاقتراب مني مجددًا!

نظرت إلى فهد، وعيناها مليئتان بالمشاعر:

– بسببه… لم أُخطف، بسببه… عدتُ إلى والديّ، بسببه… لم أختفِ كما اختفت فتيات أخريات لم يكن لهن من يُنقذهن… كنتُ طفلة، واعتبرته بطلًا مغوارًا أنقذ حياتي، ولكنهم أخذوه مني عندما زجوا به في السجن… شعرت حينها أنني فقدت آخر شخص شعرت معه بالأمان.

توقفت للحظة وكأنها تسترجع مشاعر الطفولة، ثم أردفت بصوت خافت:

– بالأمس… فعلها مرة أخرى. تحدى الموت لينقذني مجددًا، كما فعل في طفولتي… فهد لم يتغير أبدًا، لا يهم ما يظنه الناس عنه، هو بالنسبة لي… الشخص الوحيد الذي وقف إلى جانبي عندما كنت في أمسّ الحاجة إليه.

نظر أبو فهد إلى ناهد للحظة:

– وهل يعرف فهد كل هذا؟ هل يدرك مشاعرك نحوه؟

ناهد هزّت رأسها ببطء، وابتسامة حزينة مرسومة على وجهها:

– لا أعتقد ذلك… لم أصارحه أبدًا. علاقتنا لم تتجاوز مسألة الحرب المفتوحة مع أبي مشاري… مع أنه دائمًا حريص جدًا عليّ، إلا أنني لم أشعر أن المسألة وصلت إلى المودة… أو على الأقل، لم يظهر لي ذلك.

أبو فهد ابتسم بخفوت، وكأنه سمع شيئًا مألوفًا جدًا، ثم تمتم:

– كأمه تمامًا… … فهد ورث الكثير من أمه، وأهمها هذا العناد الذي يمنعه من إظهار مشاعره بسهولة. ولكنها، مثل فهد، لم تكن بحاجة إلى الكلمات… كنت ألمس المودة من معدنها، من تصرفاتها، من قراراتها، من نظرتها للأمور.

تنهد قليلًا، ثم أكمل بابتسامة ذكريات:

– كانت تستطيع أن تحطم رأسكِ بعصا، ثم تطبخ لكِ أشهى وجبة وكأن شيئًا لم يكن… هذا كان طريقتها في الاعتذار.

قهقهت ناهد رغم الجو المشحون، وهي تلمح شيئًا مألوفًا في هذا الوصف، ثم عقّبت:

– أوه… أعتقد أنني رأيت شيئًا مماثلًا من فهد، ولكن بدل العصا، يستخدم أسلوبًا أكثر إثارة للصداع! ذات مرة كنت أحاول التفكير في حل لمشكلة معينة، فاتصلت عليه وأخبرته عن المشكلة بالتفصيل، ثم همهم قليلًا… وصمت بعدها تمامًا لمدة خمس دقائق.

أبو فهد:

– خمس دقائق؟! ولم يقل أي شيء؟

ناهد، وهي تهز رأسها:

– ولا كلمة! فقط كنت أسمع صوت الشهيق والزفير، وكأنه يمارس التأمل أو شيء من هذا القبيل! وعندما لم أتحمل أكثر، صرخت عليه: (ماذا؟!) … فتنهّد وقال بكل بساطة: (أنتِ تفكرين بطريقة خاطئة، كنت سأدعكِ تكتشفين ذلك بنفسك) ثم تكرّم أخيرًا بإعطائي الحل، وكأنه منحني هدية عظيمة!

ضحك أبو فهد وهو يهز رأسه:

– ليس هذا غريبًا عليه، على كلٍ، فهد قد لا يُظهر مشاعره، ولكنه لا يحتاج إلى ذلك… إنها واضحة لمن يعرف كيف يراها.

في هذه اللحظة، بدأ فهد يحرك رأسه قليلًا، كأنه بدأ يستعيد وعيه بالكامل. تدريجيًا، بدأ يفتح عينيه ليجد الاثنين يحدقان به.

أبو فهد، بابتسامة مطمئنة:

– يبدو أنك كنت واثقًا جدًا من خطتك يا بني! الحمد لله على سلامتك.

فهد، وهو يحاول الاستناد على الجدار، وعيناه نصف مغلقتين من الإرهاق:

– وبوصولك هنا، يبدو أنك تنبأت بكامل خطتي وكأنك دخلت إلى دماغي ونسخت جميع بياناتها… هل صنعت نسخة احتياطية أيضًا؟

ضحك أبو فهد، وهز رأسه:

– ستبقى هكذا حتى في أسوأ حالاتك.

سمع الجميع صوت فتح الباب خلفهم، فالتفتوا ليروا مجموعة من الأشخاص يدخلون للاطمئنان على فهد، يتقدمهم عوض، الذي تنفّس الصعداء أخيرًا عندما رأى ابنته ناهد بخير. نظر فهد إلى الداخلين بنظرة متعبة، ثم رفع حاجبه وسأل بطريقته المعتادة:

– حسنًا، إضافة إلى عشاق حساء الشوفان بالخضار (مشيرًا إلى موظفي الحراسات الأمنية، رفاق خالد) … هل العصابة مكتملة النصاب؟

أبو موسى، بتردد واضح:

– ممم… نعم… تقريبًا… النصاب كامل … +1!!

فهد، وهو يرمقه بريبة:

– +1؟! من المتطفل صاحب الباقة الإضافية؟!

أبو موسى فرك جبينه بإحراج، قبل أن يكمل، دخل الرجل بنفسه إلى الغرفة بخطوات ثابتة، ليجد فهد نفسه يحدق في وجه مألوف… مألوف جدًا…

لم يكن سوى (النقيب مدرك).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى