قلبٌ غُسِلَ بالتسليم

عماد آل عبيدان
أتذكّر قول صاحبي:
كنتُ في عمر العشرين، عندما حضرتُ مغتسل جنازة في إحدى بلدات المنطقة آنذاك. لم أعرف فيه الفقيد، بل عرفتُ من فقده.
لم أكن من المقرّبين، ولكنّ القدر – الذي يُنسّق حضورنا في لحظات لا نتوقّعها – شاء أن أكون هناك، جالسًا في ركن المغتسل، أراقب أبًا فقد ابنه الوحيد، فتى في السادسة عشرة من عمره.
الناس يتهامسون، الوجوه تهمس بالبكاء، العيون تحوم حول الأب كأنّها تنتظر منه أن ينهار… لكنه لم يفعل.
لم يصرخ.
لم يعاتب السماء، ولم يجزع.
لم يُشبك أصابعه في الهواء كمن يطلب تفسيرًا فوريًا من الغيب: “لماذا؟”
بل جلس، كأنّه نبي خرج من نبوءة الصبر، ومال برأسه قليلًا إلى الوراء وقال بصوت هادئ:
“نعمة من الله أن جعلني وأنعم عليّ بابني ستة عشر عامًا… ثم أذن أن تعود الأمانة إلى صاحبها. وأنا راضٍ… بل ممتنّ، فله الحمد والشكر والثناء على ذلك.”
في تلك اللحظة، أدركت أن هناك أناسًا لا يحتاجون إلى منابر ليُلقوا علينا خطب الحياة… بل يكفي أن نراهم وهم يعيشونها.
خرجتُ من المغتسل لتشييع الجنازة، وأنا أحمل في قلبي سؤالًا واحدًا:
من أين يُشترى هذا النوع من التسليم؟
مرت السنوات، رأيتُ فيها وجوهًا كثيرة للفقد.
رأيتُ أمًّا تمزّق ثوبها وتصرخ: “وينك؟” كما لو أن الحياة مدينةٌ سمعيّة.
ورأيتُ من يُغلق باب غرفته أيامًا، وكأن الوحدة سترُدّ الغائب.
ورأيتُ من يصنع من حزنه قفصًا، يدخل إليه كل صباح ولا يغادره… والحزن يُقيم فيه لسنين عديدة.
ولكنني، في كل مرّة، كنتُ أعود بذاكرتي إلى ذلك الأب…
ذاك الذي لم يكفكف دمعته فحسب، بل غسل قلبه بماء الصبر والتسليم والرضا.
ذلك اليوم لم يُعلّمني فقط كيف يُفقد الأحباب، بل كيف يُربّى اليقين.
لم يكن فقدُ الابن أهونَ على قلبه، لكنّ الرجل اختار مقامًا آخر.
مقامًا يعرفه العارفون بالله: مقام الفاقدين الصابرين،
الذين إذا طرق المصاب بابهم، لم يقولوا: “لماذا؟”
بل قالوا: “لعلّها اصطفاء.”
قالها الله، وما أصدق قول الله:
“ الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلواتٌ من ربهم ورحمة، وأولئك هم المهتدون.”
ليست كلماتٍ للوعظ… بل خريطة نجاة.
خريطة لا يمضيها كلّ من أصيب، بل كل من سلّم… حقًا.
اليوم، كلّما سمعتُ خطيبًا على منبر يرفع كفّيه ويقول:
“ ساعد الله قلوب الفاقدين، وألهمهم الصبر والسلوان…”
لا أتذكّر قبورًا… بل أتذكّر وجوهًا طاهرة، رجالًا ونساءً عبَروا الفقد كما يعبر المؤمن البحر، دون أن تبتلّ أقدامهم بالجزع.
هؤلاء لا تُفرّقهم المصائب، بل تُجلّيهم.
لا يُهزمون بالبكاء، بل ينتصرون بالرضا والتسليم.
تعلّمت لاحقًا أن أعزّ ما نمنحه لأولادنا ليس الطعام، ولا التعليم، ولا الهدايا،
بل أن نُعلّمهم – منذ صغرهم – أن كلّ شيء في هذه الدنيا أمانة،
ولا بدّ أن تُرَدّ الأمانات لأصحابها.
ألعابهم، أصدقاؤهم، صحتهم… كلها أمانات.
فإذا ضاع شيء، أو تغيّر شيء، أو رُدّت الأمانة،
لا يتكسّرون، بل يسلّمون كما يُسلّم الواثق المؤمن بقضاء الله وقدره.
فكما أن الفرح أمانة… فكذلك الحزن.
وكما نُسرّ ونفرح إذا أعطانا الله،
يجب أن نتهذّب إذا أخذ.
وما أغرب الحال، حين نتربّى على التعلّق بكلّ شيء وكأنه دائم،
ثم يُطلب منّا أن لا نحزن حين نفقده!
القلوب التي تتعلّق بكلّ شيء لا تعرف طريق العودة إلى الله.
أما تلك القلوب التي غُسلت بالتسليم والرضا…
فهي القلوب التي يُباركها الغيب، وتُحيّيها الدعوات،
وتستحق أن تكون من:
“ أولئك عليهم صلواتٌ من ربهم ورحمة.”
لا أقول هذا من كمال، ولا أكتبه من علوّ أو مثالية…
بل أكتبه لأنني كنتُ شاهدًا على قلبٍ
غُسِلَ بالتسليم والرضا… لا بالبكاء.