الحياة الهادفة من منظور الإمام السجاد (ع)(٢)

السيد فاضل آل درويش
ورد عن الإمام السجاد (ع): (أيها الناس أحذّركم الدنيا وما فيها .. )(بلاغة الإمام السجاد للحائري ص ٢٩).
التحذير من الدنيا ليس بمفهوم الانعزال وترك ساحة العمل والبحث عن معالجات لما يمر به الإنسان من مشاكل على المستوى الاجتماعي والمهني وغيره، كما يتصوره البعض لمفهوم الزهد الخاطيء وهو التخلي عن مباهج الحياة وتعطيل الفرد قدراته و إمكانياته والانزواء في إحدى الزوايا، بل التحذير يتناول البعد المادي من الحياة والاغترار به والسير خلف الشهوات دون ارتواء في مقابل حالة العمى عن المصير الأخروي وساحة العدالة الإلهية والمجازاة، فلنتصوّر الإنسان في أيام الجاهلية وهو يقف بين يدي الأصنام لتحقق له رغباته و آماله، وكذلك الإنسان المادي المتعلق بالدنيا وزينتها (ألوهية المال)، فيبقى أسير الارتهان كالعبد الذليل سائرًا خلف المال وكنزه ومهوسًا بالتمكّن والاقتدار غير المتناهي، كما هي الحالة القارونية حيث تصبح السعادة متمثلة بالمكانة المادية العالية والقادر من خلالها على تحصيل ما يريده بعد أن تحوّل إلى سلعة ومثمن يمتلك ثمنه، وحينئذٍ يصارع الفرد حالة الغرق بعد أن تملّكه الطمع والجشع وحب الاستزادة والسعي المتلاحق خلف تراكم الأموال، ولا يمكن الحديث عن حالة التصلب في المشاعر والتصحّر الوجداني أمام حالات الحاجة على مستوى أقاربه وأفراد مجتمعه، فالعطاء في المفهوم القرآني والإنساني هو قمة السعادة والتحرر من الأنا والصعود إلى قمة التكامل ببلسمة آلام المحتاجين، بينما هو (العطاء) في نظر الإنسان المادي تبذير وهدر لثروته ولا يمكنه التفريط بأدنى جزء منها لغيره، ولو استطاع في اكتنازه للمال أن يصعد على أكتاف الغير لما كان مستنكفا لذلك، فعينه وعقله لا يعرف إلا لغة الأرقام التي تختفي منها الروح الإنسانية النبيلة الداعية إلى مواساة الغير بشيء من العطاء.
المحقق لكمال الإنساني الحقيقي والمعبّر عن شخصيته هي صفاته الأخلاقية وطريقة تعامله مع الآخرين، والمال والجاه ما هو إلا وسيلة لتحقيق تلك الأهداف والغايات الكبرى في حياته ومن الخطأ تبديل الوسيلة إلى غاية، والمجرى اللائق بالمال هو تحقيق الحياة الكريمة دون أن يتغلغل وجوده إلى نفوسنا حتى النخاع فيقلب حقيقتنا إلى أسارى وخزّان له، فالفارق بين الكيّس الفطن والمغرور الغافل هو النظرة للدنيا، فشتان ما بين من فهم حقيقتها فأخذ منها زادا لآخرته وكان عين العطاء والتخفيف عن كاهل المعوزين، وبين من جرى خلف مظاهرها الخداعة لاهثًا يحسب نفسه من الخالدين حتى تقطّعت أنفاسه!!
التحذير من الدنيا لا يعني قطع العلاقة مع المال أو منع طموح الفرد بتحسين وضعه الاقتصادي والإنماء والاستثمار، بل هو دعوة لضبط العلاقة والموازنة بين الحاجات المالية والروحية والاهتمام بالمظهر الأخلاقي، وهنا لابد من الإشارة إلى ما يتعلّق بهذا المفهوم من التوازن بما يتعلّق بثقافة الاستهلاك وشهوة الشراء والجري خلف الكماليات الزائدة (الترفية).