جمعية الآثار والتراث تحتفي بالبشت من مهده الأحسائي وامتداده الحضاري بنموذجيه الرجالي والنسائي

رباب النمر: الأحساء
بالبشت الحساوي احتفت جمعية الآثار والتراث بالمنطقة الشرقية عبر فعالية صيفية في مقر الجمعية ببلدية وسط الهفوف بعنوان(البشت من مهده الأحسائي وامتداده الحضاري بنموذجيه الرجالي والنسائي)، وذلك عبر محاضرتين شائقتين ألقى الأولى منهما المدرب محمد الأمير (باحث بالبشوت الاحسائية) تحت مسمى( البشت من مهده الأحسائي إلى امتداده الحضاري)، والثانية ألقتها فاطمة العلي (باحثة في التاريخ والتراث) تحت عنوان (الدفة النسائية)، وذلك مساء أمس الأول، وارتكزت محاضرة الأمير على مقدمة وستة محاور. وفي المقدمة كان ثمة حديث عن البشت وموقعه الحضاري من النفوس، ورموزه، وقيمته الثقافية.
ومما جاء في المقدمة : (عندما نتحدث عن البشت فنحن لا نتحدث فقط عن قطعة قماش منسوجة، بل عن إرث ثقافي امتد لقرون طويلة، يحمل بين طياته قصص الملوك والفرسان والأدباء والتجار والعلماء، وسائر الناس في تلك المجتمعات، ويجسد العراقة والفخامة في آنٍ واحد)، وأشار إلى نشأة البشت في الأحساء: (في قلب شبه الجزيرة العربية، وتحديدًا في أرض هجر الأحساء نشأت حرفة تذهيب البشت وصياغته، حيث اجتمع الإبداع الحرفي مع الفكر الصافي والذوق الحساوي، الذي اختزل طبيعة الأرض من سهولها وتلالها وبحرها وعيونها وزرعها ونخليها وطبيعة إنسانها ليلد لنا منتجًا كان ولا يزال رمزًا للوجاهة والمهابة والمكانة الاجتماعية).
وفي أول محور وهو التسمية تناول الأمير أصل التسمية بين اللغات القديمة والتفسيرات اللغوية للبشت، وأشار إلى تعدد الروايات حول أصل كلمة (بشت)، راصدًا الآراء حولها، حيث أرجعها البعض إلى الأصل البشتوني للقبائل التي سكنت بين أفغانستان وباكستان الذين كانوا يرتدون معاطف الصوف لتقيهم برد الجبال(بشتكو)، فانحدرت الكلمة منهم إلى العرب عبر طرق التجارة والتواصل الثقافي بين الشعوب. فيما يرجعها البعض الآخر إلى الأصل الفارسي حيث تطلق كلمة(بوشت) على الظهر، كون البشت يُرتدى فوق الأكتاف من الخلف، وحيث كان لباسًا يبرز المكانة الاجتماعية في الدولة لملوك الفرس الذين كانوا يرتدون أردية طويلة مصنوعة من مواد فاخرة مثل الحرير وخيوط الذهب موشاة بتطريزات دقيقة وجواهر. وبعض المؤرخين يرجعها للأصل الأكادي، وهم جماعة جزرية من أصول سامية هاجرت من الساحل الشرقي لشبه الجزيرة العربية بسبب شح المياه وتصحر الأراضي الزراعية واستوطنت المناطق الجنوبية لبلاد الرافدين بمدينة (أكد)، وكان الأكاديون يطلقون كلمة (بشت) على الرداء ذي الفخامة والمهابة والجلال وهذا ما يتناسب مع وظيفة البشت.
ومن المؤرخين من يرجع أصل الكلمة للأصول العربية حيث يُعد الرداء لدى العرب جزء رئيس في لباسهم، وقد جاء في النص المروي عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام: (أنا ابن خير من ائتزر وارتدى)، وحيث ذكر اللباس والثياب للتفاخر في بعض قصائد العرب، مثل قول أبي فراس الحمداني يفخر بثيابه: يمنون أن خلوا ثيابي وإنما .. عليّ ثياب من دمائهم حمرُ. يقول الشاعر بدر بن عبد المحسن: ثوبي على المتن مشقوق ومثل الجبال السمر صبري ثباتي. وأشار الأمير إلى أن الثوب عند العرب كان يسمى بالبردة، وقصيدة كعب بن زهير المسماة بالبردة مشهورة والسبب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عفا عنه لما سمع القصيدة التي مطلعها: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول.. متيم إثرها لم يفد مكبول. وأعجب بالقصيدة وكساه البردة. وبين الأمير تعريف كلمة بشت في المعاجم العربية، ومعناه: كساء من صوف غليظ النسج، لا كُمّين له يرتديه أهل الريف في الشتاء، والجمع بشوت، بينما يرى بعض اللغويين أن كلمة بشت عربية أصيلة ولها علاقة وثيقة بكلمة (بتّ) التي وردت في المعاجم العربية القديمة، حيث ذكر البتّ في معجم تاج العروس، وفي الجمهرة، وفي الصحاح واتفقوا على كونه كساء غليظ و طويل. ويدل عليه قول رؤبة بن العجاج: من يك ذا بت فهذا بتي .. مصيّف مقيّظ مُشتِّي تخذته من نعجات ستِّ .. سود جعاد من نعاج الدستِ. وجاء في فقه اللغة: البت كساء من صوف غليظ مهلهل مربع أخضر، وقيل: هو من وبر وصوف. وقد حسم موضوع أصل التسمية معجم الرياض التابع لمجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية، حيث جاء فيه أن بِشت عباءة يرتديها الرجل فوق ملابسه وخاصة في دول الخليج العربي.
وفي ثاني المحاور تحت عنوان: المهد (الموطن الأصلي) للبشت، توصل إلى أن البشت منشؤه حساوي على سبيل اليقين، لعدة أسباب، أولها أن هناك جذور عائلية ممتدة قد وضعت بصمتها الواضحة في صناعة البشوت في الأحساء، وفيها مواقع بأكملها تغزل وتحيك نسيج البشت، من رجالها ونسائها وكبارها وصغارها، تصنع البشت وتُذهِّبه.
وثاني الأسباب أن كتب التاريخ كتبت عن الأردية الهجرية وعبايتهم، وبردتهم، مثل العلامة الجاحظ الذي ذكر في كتاب البيان والتبيين عند حديثه عن لباس أهل هجر:” وكان أهل هجر يلبسون العباءة من صوف تُغزل وتُنسج عندهم “، كما وردت إشارات أوسع في كتاب معجم البلدان لياقوت الحموي حينما تناول منطقة هجر وأهلها وصناعاتهم، ومنها صناعة العباءات مشيرًا إلى بعض علماء هجر، وقال حرفيًّا:” وكانوا يلبسون العباءة الهجرية المصنوعة عندهم، وهي مرغوبة عند أهل العراق والشام”. وذكر القلقشندي في صبح الأعشى أن من أهم صادرات البحرين( ومنها هجر) العباءات السود المصنوعة من صوف ناعم وتُعرف عند التجار باسم (الهجرية).
وثالث الأسباب التي ذكرها الأمير هي ورود ذكر البشت في القصائد الشعبية التي تُنظم، وتُغنى، وتُنشد مثل قصيدة نبيل بن عاجان القائل: يروي البشت الحساوي بالدليل .. حرفة الأجداد والابن الشغوف.
ورابع الأسباب التي رصدها الأمير تغني أدباء الأحساء بتفاصيل ميبرهم ولزمتهم، وكرمكهم وترحالهم، وهناك قصيدة طويلة جدًا للشاعر الدكتور عادل بن علي الأمير تناولت موضوع البشت الحساوي بكل تفاصيله وتفاصيل حياكته وتذهيبه.
وخامس الأسباب التي ذكرها الأمير تصوير الفنانين التشكيليين إيقاع الميبر في لوحاتهم مثل الفنان التشكيلي حسين المحمد صالح الذي رسم أدق جلسات المخايطة في صناعة المكسر والهيلة.
وسادس الأسباب التي ذكرها الأمير هو ذكر البشت وأدوات صناعته في الأمثال الشعبية الحساوية وتداولها في وسطهم الاجتماعي، مثل: البشت قرين الذهب، مكدة من خرم ميبر، راس مال المخيط ميبره، عشت ولبست بشت، الزري ياكل العين، على الله يا بو بشيت البدري على الله، مو كل من لبس بشت رجال، وغيرها الكثير.
وأشار الأمير إلى أن نسج كسوة الكعبة المشرفة من عام ١٢٢١ للهجرة حتى ١٢٢٧ للهجرة جرى في منزلين: الأول بيت عيسى بن شمس والثاني بيت أوقفه الشيخ أحمد الملا في مدينة الهفوف، وقد نسجت فيه كسوتان تحت إشراف مجموعة من الحرفيين المهرة، ونسجت فيه مرة أخرى عام ١٣٤٣ للهجرة. واستغرق إنجاز الكسوة نحو شهرين أو أكثر واشترك فيه أكثر من ثلاثين رجلًا وهم من أسر معروفة بهذا الفن في الأحساء، وكان وفد من الحائكين يذهبون إلى مكة المكرمة لأخذ المقاسات على الكعبة المشرفة، ثم العودة إلى الأحساء وكانت الرحلة على ظهور الإبل تستغرق ٨٠ يومًا ذهابًا وإيابًا. كما ذكر الأمير التقسيم الجغرافي لصناعة البشت في الهفوف القديمة، مثل الكوت والرفعة والنعاثل وامتياز كل حي بمهنة محددة.كما تحدث عن مراحل تكون البشت، وأنواعه، ودقاته، وتفاصيل دقاته، وتطور الكرمك مدعمًا حديثه بشرح واف من خلال الصور الرسمية لملوك الدولة السعودية. وفي المحاضرة الثانية التي دارت رحى محاورها حول الدفة النسائية التي قدمتها فاطمة العلي باحثة في التراث، أشارت العلي إلى اشتهار هجر بالصناعات النسيجبدية قبل الإسلام واكتسابها شهرة والدلالة على جودتها بنسبتها إلى المتطقة، مثل الأثواب الهجرية، وبز هجر، وصناعة الفوط، وكسوة الكعبة الحساوية. وفي المحور اللغوي أشارت العلي إلى أن الدفة اصطلاحًا عباءة توضع على الرأس وترتديها النساء في شبه الجزيرة العربية مفردها دفة، وجمعها الدفيف محليًّا.وتفصل بشكل مستطيل وتثنى من الجانبين من الجهة الأمامية بعد ترك مسافة بين الطرفين بحيث أنهما لا يلتقيان، وتسمى بالجيب وهو مكان وضع الدفة على الرأس، ولا يوجد للعباءة أكمام بل لها فتحتان صغيرتان في الزاويتين اليمنى واليسرى لتسمح بمرور اليدين منها. ويتم تقصير الدفة على شكل ثنية داخلية بمنتصف الدفة لتعديل الطول بما يتناسب وطول المرأة، وكانت تصنع من الصوف بأنواعه ومنها المرينة والماهود والونيشن، ومع مرور الزمن أدخلت خامات مثل حرير الحبار والكريب. ثم رصدت العلي أنواعها بين يومية دون خيوط تطريز، ومناسباتية مطرزة الحواف بخيوط الذهب أو البريسم ومزينة بكرات من الزري أو الذهب، ومنها: الماهود، وأم الجنوب، وأم الملاليس، والمجوخة، والسويعية (المهيلة)، وأم سميكة، والمترّشة، والخليفية، والمفصصة، والمعصمة، والمزوية مستعينة بالصور ومبينة الفرق بين الأنواع وأماكن ارتدائها في خارطة شبه الجزيرة العربية. وتحدثت العلي عن الإضافات التي تتخذ للزينة في العباءة مثل القيطان، وعمايل الذهب، وهي البسرات والبيذانة والبلابل. ثم ذكرت ان ما يميز العباءة النسائية هي الكمية المضاعفة التي تحشى بها من القيطان فيكون مكسرها سميك، وباحتياجها لكمية أكبر من الزري لكثافة التطريز. ومن مميزاتها أن كتاباتها ورسوماتها مقلوبة من الخلف تعتدل عندما تنسدل على وجهها، وأن أساليبها الزخرفية مستمدة من البيئة. ثم أشارت العلي إلى اتخاذ الدفة المطرزة بالزري للنذر والفخر والمباهاة، ثم ذكرت ورود الدفة وتفصيلاتها في الشعر الشعبي.