غرباء تحت سقف واحد.. حين فقدت البيوت دفئها

سامي آل مرزوق
لم يكن البيت في يوم من الأيام أربعة جدران، وسقفاً يقي من المطر والحر، البيت حضناً نعود إليه حين تنهشنا الحياة، ومساحة نكون فيها على سجيتنا دون رتوش، البيت كان نفساً مشتركاً ليس لأننا نسكن تحت سقف واحد، بل لأن قلوبنا كانت تتنفس معاً، اليوم وكأن الزمن فعل فعله أصبحت كثير من البيوت فقط مساكن صامته، لا يسكنها دفء ولا تواصل حقيقي ولا تسمع فيها ضحكات صادقة، فقط جدران تتكرر فيها خطوات متباعدة، وكأن ساكنيها يعيشون حالة اغتراب داخلي، تحت مسمى العائلة.
من منا لم يشعر ولو مرة أن بيته لم يعد كما كان، ذلك المكان الذي كنا نشتاق إليه أكثر مما نشتاق للسفر، صار كثيراً ما يُشعرنا بالحاجة إلى الهرب، جلسات العائلة تقلصت، الأحاديث أصبحت سريعة ومقطوعة، والهواتف تحل محل العيون، كأن كل فرد يعيش في قاعة تخصه، ينام في غرفة ويأكل في صمت، ويخرج دون وداع، ثم يعود كأن عودته لا تعني أحداً صرنا نعيش في زمن تعقدت فيه العلاقات داخل البيت الواحد، حتى بتنا نشتاق لمن تحت سقف أكثر مما نشتاق للبعيدين.
في الأمس كانت الأم تجمع القلوب بحنانها، والأب يشد أزرار البيت بحكمته، والأخوة يكمل بعضهم بعضاَ بمحبة خالصة، كانت المائدة لقاء يومي لا يقل قداسة عن الصلاة، والمجالس تسامر لا ينقطع، تمتلئ بالأحاديث والضحكات، والزيارات لا تحتاج مناسبة أو دعوة، أما اليوم نبحث عن فرصة لنجتمع، وكأن الاجتماع صار استثناء لا عادة وكأننا ننتظر مناسبة لنكون عائلة، بات الأب يشعر بأنه غير موجود أو غريب داخل بيته، وأم تصرخ في صمت لا يسمعه أحد، وأبناء غارقون في عوالمهم الافتراضية، يسكنون الشاشات أكثر مما يسكنون في قلوب من حولهم، يتواصلون مع الغرباء أكثر مما يتواصلون مع أهلهم و اقرب الناس إليهم.
تقول إحدى الأمهات ” في طفولتي كانت أمي لا تبدأ الطعام إلا ونحن جميعاً على المائدة، وكانت تتحدث معنا أكثر مما تطهو، اليوم أعد الطعام و أتناوله وحدي”، ويقول أحد الآباء بأسى” كنت اعد الدقائق حتى يعود ابني من المدرسة، واليوم أعد الأيام حتى يتبادل معي بضع كلمات”، مواقف كهذه تتكرر في بيوت كثيرة، حيث تتحول الحياة العائلية على وجود شكلي لا أكثر، وتصبح العلاقات بين الأفراد مجرد واجبات مجدولة لا روابط حية.
المشكلة لا تكمن في التكنولوجيا وحدها، بل في أنها حلت محل القرب الحقيقي، وأصبحت غطاءً لغياب أعمق، كما أن الأمر لا يتعلق فقط بزيادة المشاغل بل بانخفاض الأولويات، إذ لم نعد نمنح علاقتنا في البيت ما تستحق من حضور واهتمام، وصرنا نؤجل القرب كما نؤجل المشاريع إلى الإجازات أو العطل او وقت لاحق، دون أن ننتبه أن هذا التأجيل يُكلفنا مشاعرنا و دفء قلوبنا، وحتى الروابط التي كنا نظنها ثابته. التربية ليست توفير احتياجات فقط، ولا حنان يؤجل إلى نهاية الأسبوع، ولا الصدق العاطفي يحتاج إلى مناسبات، نحن نملك ما يعيد الحياة إلى بيوتنا، لكننا نحتاج أن نتذكر ذلك أن نطفئ هواتفنا قليلاً ونُشعل دفء الحديث، أن نسأل بعضنا عن يومه لا عن واجباته، أن نجلس على مائدة واحدة ولو مرتين في الأسبوع بلا إلهاء، فقط لنستعيد الإحساس بأننا معاً، أن نقول لمن نحب أننا نحبه، أن نصغي لصوت أبنائنا حتى لو لم يتكلموا، أن ننظر في عيون امهاتنا و آبائنا ونقول لهم، أنتم لستم مجرد من نعيش معهم، أنتم الحياة التي نحيا بها.
الفرق بين بيت وبيت ليس في المساحة ولا في الأثاث بل في من فيه وكيف يكون، هناك بيوت بسيطة تتسع بكل دفئها لألف قلب، وأخرى فخمة فسيحة لا تسع فيها الأرواح بعضها البعض، بيتٌ صغير مليء بالمحبة يشبه الجنة، وبيت فاخر بلا تواصل يُشبه الغربة، ونحن حين نبني بيتاً لا نحتاج أن نُحكم بناء الجداران فقط، بل أن نُحكم بناء القلوب، فكم من بيت امتلأ بأشياء وخلا من الدفء، وكم من أم تتنهد كل مساء وتقول، ليس البيت كما كان، رغم أنها محاطة بأبنائها، غير أن الأمل لم يُغلق بابه، فما دامت القلوب تنبض فهناك ما يمكن إصلاحه، لا نحتاج معجزة فقط أن نُقر أن شيئاً انكسر، ثم نبدأ بإصلاحه قبل أن يُصبح عادياً أن نعيش معاً دون أن نكون معاً.