الخطيب الذي أحبَّه الناس

الشيخ عبدالله اليوسف
للخطابة الحسينية دور بالغ ومهم في نشر معارف الإسلام وأحكامه، والتعريف بالمفاهيم الدينية، وترسيخ القيم الأخلاقية والإنسانية، وتعزيز الوعي الديني والاجتماعي، وربط الناس بقيم الإسلام وأخلاقياته.
وللخطباء دور رئيس في ربط الأجيال المتعاقبة بنهج أهل البيت الأطهار (عليهم السلام)، والتعريف بالنهضة الحسينية المباركة، وبيان منطلقاتها وأهدافها، وإحياء الشعائر الحسينية على امتداد التاريخ؛ إذ كان للخطباء -ولا يزال- دور مؤثر في إبقاء الحرارة الحسينية متَّقدة في القلوب، ومتجذرة في النفوس، وعميقة في الوجدان الشعبي.
وللخطيب والناعي على الحسين (ع) دوره الفاعل في إحياء ذكرى عاشوراء، وتذكير الناس بما حدث من مصائب وفجائع في كربلاء مما يجعل الحادثة عصيَّة على النسيان أو الطمس أو الضياع، كما أن للخطيب دورًا في إثارة العاطفة وتهييج الحواس وتفاعل الناس بالحزن والبكاء على أبي عبدالله الحسين وعترته الطاهرة.
وقد ورد في روايات مستفيضة بل متواترة الحث على بيان فضائل ومناقب أهل البيت الأطهار، وإحياء مصائبهم، والفرح لفرحهم والحزن لحزنهم، خاصة في عاشوراء الحسين، وما يرتبط بنهضته المباركة، فقد كان الإمام الصادق (ع) يحث أصحابه على إنشاد الشعر والرثاء في الإمام الحسين (ع)، فعن زيد الشحّام قال: كُنّا عِندَ أبي عَبدِاللَّهِ (ع) ونَحنُ جَماعَةٌ مِنَ الكوفِيّينَ، فَدَخَلَ جَعفَرُ بنُ عَفّانَ عَلى أبي عَبدِاللَّهِ (ع) فَقَرَّبَهُ وأدناهُ، ثُمَّ قالَ: «يا جَعفَرُ!» قالَ: لَبَّيكَ جَعَلَنِيَ اللَّهُ فِداكَ، قالَ: «بَلَغَني أنَّكَ تَقولُ الشِّعرَ فِي الحُسَينِ (ع) وتُجيدُ»، فَقالَ لَهُ: نَعَم، جَعَلَنِيَ اللَّهُ فِداكَ! فَقالَ: «قُل»، فَأَنشَدَهُ [فَبَكى] (ع) ومَن حَولَهُ حَتّى صارَت لَهُ الدُّموعُ عَلى وَجهِهِ ولِحيَتِهِ.
ثُمَّ قالَ: «يا جَعفَرُ! وَاللَّهِ، لَقَد شَهِدَكَ مَلائِكَةُ اللَّهِ المُقَرَّبونَ، هاهُنا يَسمَعونَ قَولَكَ فِي الحُسَينِ (ع)، ولَقَد بَكَوا كَما بَكَينا أو أكثَرَ، ولَقَد أوجَبَ اللَّهُ تَعالى لَكَ –يا جَعفَرُ- في ساعَتِهِ الجَنَّةَ بِأَسرِها، وغَفَرَ اللَّهُ لَكَ».
فَقالَ: « يا جَعفَرُ! ألا أزيدُكَ؟».
قالَ: نَعَم يا سَيِّدي.
قالَ: «ما مِن أحَدٍ قالَ فِي الحُسَينِ (ع) شِعراً فَبَكى وأبكى بِهِ، إلّا أوجَبَ اللَّهُ لَهُ الجَنَّةَ وغَفَرَ لَهُ» .
وعن الإمام الصادق (ع) قال: «مَن أنشَدَ فِي الحُسَينِ (ع) فَأَبكى عَشَرَةً فَلَهُ الجَنَّةُ، ثُمَّ جَعَلَ يَنقُصُ واحِدًا واحِدًا حَتّى بَلَغَ الواحِدَ، فَقالَ: مَن أنشَدَ فِي الحُسَينِ (ع) فَأَبكى واحِدًا فَلَهُ الجَنَّةُ، ثُمَّ قالَ: مَن ذَكَرَهُ فَبَكى فَلَهُ الجَنَّة» ١.
وعن الإمام الباقر (ع) أنه قال: «ما مِن رَجُلٍ ذَكَرَنا أو ذُكِرنا عِندَهُ، فَخَرَجَ مِن عَينَيهِ ماءٌ ولَو قَدرَ مِثلِ جَناحِ البَعوضَةِ إلّا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيتًا فِي الجَنَّةِ، وجَعَلَ ذلِكَ حِجابًا بَينَهُ وبَينَ النّارِ» ٢. وعن إقامة المآتم والمجالس الحسينية روى الْأَزْدِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِاللَّهِ (ع) قَالَ: قَالَ لِفُضَيْلٍ: «تَجْلِسُونَ وتُحَدِّثُونَ؟».
قَالَ: نَعَمْ، جُعِلْتُ فِدَاكَ.
قَالَ: «إِنَّ تِلْكَ الْمَجَالِسَ أُحِبُّهَا، فَأَحْيُوا أَمْرَنَا يَا فُضَيْلُ، فَرَحِمَ اللَّهُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَنَا، يَا فُضَيْلُ مَنْ ذَكَرَنَا أَوْ ذُكِرْنَا عِنْدَهُ، فَخَرَجَ مِنْ عَيْنِهِ مِثْلُ جَنَاحِ الذُّبَابِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ وَلَوْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ زَبَدِ الْبَحْرِ» ٣.
وقد قال الإمام الحسين (ع) عن نفسه بأنه قتيل العَبرَة، فقد ورد في كامل الزيارات عن أبي بصير عن أبي عبداللَّه [الصادق] عن الحسين (عليهما السلام) قال: «أنَا قَتيلُ العَبرَةِ، لا يَذكُرُني مُؤمِنٌ إلَّا استَعبَرَ» ٤.
وإضافة كلمة «قتيل» إلى «العبرة» هي من باب إضافة السبب إلى المسبّب، فإنّ جملة «أنا قَتيلُ العَبَرةِ» تعني أنّ قتلي سبب للبكاء وإهمال الدموع.
يقول العلّامة المجلسي في إيضاح الجملة المذكورة: «أنا قَتيلُ العَبَرةِ» أي قتيلٌ منسوبٌ إلى العبرة والبكاء وسببٌ لها. أو أُقتل مع العبرة والحزن وشدّة الحال. والأوّل أظهر.
وهذا ما يقوم به خطباء المنبر الحسيني قديمًا وحديثًا، إذ يقومون بدور مؤثر في استدرار الدموع والبكاء على أبي عبدالله الحسين (ع) وعترته الطاهرة وأصحابه النجباء الذين ضحوا بأنفسهم دفاعًا عن الإسلام وعترة النبي الطاهرة.
ومن هؤلاء الخطباء: الخطيب الحسيني الراحل الملا/ حسين ابن الملا محمد آل باقر (رحمه الله تعالى برحمته الواسعة) الذي انتقل إلى الرفيق الأعلى مساء يوم الثلاثاء 8 ذي القعدة 1446هـ الموافق 6 مايو 2025م بعد عمر حافل قضاه في الخطابة الحسينية والوعظ والإرشاد والتوجيه الديني والأخلاقي.
لقد ترك الخطيب الراحل إرثًا خطابيًا وأثرًا وجدانيًا في قلوب مستمعيه بخطابته الشجيَّة التي امتدت لستة عقود من الزمن تقريبًا، كان يتنقل ناعيًا للإمام لحسين (ع) من مكان إلى آخر، فقرأ في كل مناطق القطيف وغيرها، وكان يُكثر من الرثاء والعزاء في المقدمة والمؤخرة ليربط المستمع بأهل البيت الأطهار عاطفيًا ووجدانيًا، مع توجيه الناس وإرشادهم إلى الالتزام بقيم الدين وأخلاقياته؛ وكان يحضر تحت منبره الكبير والصغير، والمتعلم وغير المتعلم؛ ويقرأ في كل مكان من دون أن ينظر إلى كبر المكان أو ضيقه، في الحسينيات الكبيرة أو في المجالس الصغيرة، ولا يشترط أجرًا معينًا، فما يعطيه صاحب المجلس يرضى به ولو كان قليلًا.
كما كان الخطيب الراحل مرشدًا للحج والعمرة لسنوات طويلة، إذ كان يذهب مع حملات الحج والعمرة ليقوم بدور المرشد والمبلغ والموجه للناس؛ وكان إمامًا للجماعة لفترة من الزمن، وعندما توقف عنها لم يترك صلاة الجماعة بل كان يحضر مأمومًا بعد أن كان إمامًا، وكان يقيم صلاة الأموات والأعياد وغيرها من المناسبات الدينية.
*وأما عن صفاته الأخلاقية* : فقد كان الخطيب الراحل (رحمه الله) يتميز بحسن الأخلاق؛ فقد كان طيِّب النفس، دمث الأخلاق، حسن التعامل، يحترم الأخرين ويقدرهم، دائم التواصل مع الناس، يعاشرهم بلا تكلف ولا تصنع، يتواضع للصغير والكبير، ويتلاطف معهم؛ فأحبه الناس كما كان يحبهم، وانجذب الناس إليه لجميل أخلاقه، فكانوا يحبون مجالسته ومعاشرته، فقد كان كأحدهم لا يُظهر نفسه وكأنه أفضل منهم، وهذا ما جعله موضع تقدير ومحبة الآخرين له.
واجتماع الخطابة والعلم مع الأخلاق الحسنة يجعل الخطيب قدوة للناس، ومحل تقديرهم ومحبتهم، فعندما يتطابق كلامه مع أفعاله، وأقواله مع سيرته ينجذب الناس إليه، وأما من لا يكون كذلك فإنه يفتقد المصداقية، ولا يؤثر كلامه في أحد.
إن تحلي الخطيب الحسيني -وغيره- بالأخلاق الحسنة والتعامل الحسن يضفي مزيدًا من الفاعلية والتأثير في كلامه وإرشاده وتوجيهه للناس، وينال خير الدنيا والآخرة، فقد روي عن رسول الله (ص) أنه قال: «حُسنُ الخُلقِ ذَهَبَ بخَيرِ الدُّنيا والآخِرَةِ» .
وهذا ما عُرِف به الخطيب الحسيني الملا/ حسين ابن الملا محمد آل باقر، فقد أجمع كل من كان يعرفه وعاشره وجالسه على حسن أخلاقه، وتواضعه الجم، مما جعله محل محبة وتقدير الناس له.
نسأل الله سبحانه وتعالى له علو الدرجات، وأعلى المراتب في جنات النعيم مع الإمام الحسين وأهل بيته الطيبين الطاهرين (سلام الله عليهم أجمعين). الهوامش: ما بين المعقوفين مذكور في بحار الأنوار.
١. رجال الكشّي: ج 2 ص 574 ح 508، بحار الأنوار: ج 44 ص 282 ح 16.
٢. كامل الزيارات: ص 210 ح 301، بحار الأنوار: ج 44 ص 287 ح 25.
٣. كفاية الأثر: ص 248، بحار الأنوار: ج 36 ص 390 ح 2.
٤. قرب الإسناد: ص 26. بحار الأنوار: ج44، ص: 282، ح 15.
كامل الزيارات: ص 215 ح 310 و ح 313، الأمالي للصدوق: ص 200 ح 214، روضة الواعظين: ص 188، المناقب لابن شهر آشوب: ج 4 ص 87، فضل زيارة الحسين (ع): ص 41 ح 14 ، بحار الأنوار: ج 44 ص 284 ح 19.
بحار الأنوار: ج 44 ص 279.
الأمالي للصدوق: 588/ 811.