أقلام

مع السيّد عقيل الحاجي.. حواريّة رثائيّة في ظل الرحيل

سيد زكريا الحاجي

أبا محمد… هل وجدتَ ما وعدك الله حقاً؟

هل فتحتَ عينيك على نورٍ لا يُطفأ؟

هل وجدتَ الموتَ كما همستْ لنا الرّوايات: جميلاً، خفيفاً، كنسمةٍ تسري من نافذةٍ مفتوحة نحو جنانٍ لا تُغلق أبوابُها؟

أخبرنا، يا من صافحتَ الرحيلَ بابتسامة: هل خيّروك حقاً حين أتت ساعةُ الفراق؟

هل حقاً مرّت أمامَك حياتك كطيف عابر؟

هل رأيت حقيقة الدنيا بكلّ ما فيها، ثم أشحت عنها، وقلت بقلب ملؤه إيمانٍ: الآخرة أحبّ إليّ؟

يا أبا محمد كنا نَرقب ملامحك حين اشتد بك المرض، فوالله ما رأينا إلا وجهاً يَشكر، وروحاً تَحمد، وابتسامةً تَسجد على ثغر الألم.

أبا محمد، صدقني.. كنتُ جاداً حين قلتُ لك — وأنا أكتم انبهاري — إنني أغبط جسارتك!. كيف لروحٍ أن تقفَ شامخة أمام عاصفة بهذا الحجم؟

كنتُ أوّلَ من رآك بعد أن نزل بك الخبر، في ممرّات مستشفى “العفالق”، سألتُك حينها عن حالك -بخوفٍ لا أعرف كيف أُخفيه -؟ قلتَ لي بطمأنينةٍ ملائكيّة:

مجرّد موعد روتيني، لا تقلق.

صدقتك، لا لأن العبارة كانت مقنعة، بل لأنّ وجهك كان خالياً من أيّ أثر للصدمة، وكأنّ مرضاً بحجم السرطان زائرٌ عابر، لا يليق أن يُعكّر صفو يقينك وثقتك بما اختاره الله لك.

وحين علمتُ — بعد حين — أن تلك الزيارةَ العابرةَ للمستشفى، كانت في واقعها لحظةَ اكتشافك للداء الخبيث، ارتجف قلبي، كيف استطعتَ أن تبتسم في وجه الوحشِ الذي بدأ ينهشُ جسدك؟!

لكنّك — كما عهدناك — لم تكن ممّن يمنحُ المرضَ شرفَ الانتصار عليه، عندما سألتُك عن روحك الكبيرة في تقبّل المرض: تبسمتَ ساخراً منه، وقلتَ لي بصوتٍ فيه تهكم الأبطال: لا يهم، كلّ ما يكتبه الله جميل.

ولأنك لم تكن مهتماً بما قاله الدكتور لك، قلت لي: حتى أنّني لم أُخبر أحداً في بادئ الأمر، وكنتُ أذهب إلى المناسبات، دون أن يَشعر أحد بأنّني أحمل في جنباتي خبر الموت.

نعم، كنتَ تمشي بينهم وتُخبّئ وحشك بين ضلوعك وتبتسم كأن شيئاً لم يكن. كانت آفاق المناسبات تضجّ بالفرح، فيما يملؤك صمت اليقين بأنّ لا شيء في هذه الحياة يستحق كل ذلك الصخب.

حين نطق الطبيب بكلمته الثقيلة، وحين صاغ القدر على لسانه حكماً لا يُستأنف: “أنت مصاب بالسرطان”. كأني بك منحت الخبر لحظةَ صمت قصيرة، كوقفة محارب يتأمّل ساحة المعركة، ثم مضيت شامخاً.

لم تُحدّثْ أحداً بآلامك إلا حين صار العلاج ضرورة، وحين خانك الجسد، فلم يعد المرض يُخفى.

أعلمُ يا أبا محمد، أن أكثر ما كان يُخيفك ويؤلمك،

لم يكن وقعُ المرض عليك، بل تلك اللحظةُ التي تُخبر فيها شريكة حياتك، أكثرُ ما تخشاه، هو قلبها بأن يتفطر. كأنك تهمس لها: قد حان الفراقُ يا رفيقة دربي.

أتذكر، في إحدى زياراتنا لك، كنتَ تُبدي حزناً خفيّاً على زوجتك، وهي تُرهق قلبها وجسدها في رعايتك، وكنتَ تُردّد بحنانِ الموجَع: أتعبتُها كثيراً..

كنتَ تخشى أن تنظر في عيون أبنائك، وتراها ترتجف في مواجهة الحقيقة.

وحين التفتَّ إلى وجوه أحبّتك، ورأيت في أعينهم وجعاً يُشبه النحيب الصامت، أدركتَ أن الألم انتقل إليهم، فأصبح وجعهم عليك، أشدّ عليك من وجعك في نفسك.

أبا محمد، كنتَ دوماً ذا همةٍ عالية لا ترضى إلا بالتفوّق، ولا تقبل بغير التميّز سبيلا. هكذا عرَفَك زملاؤك في العمل، مجتهداً لا يكِل، حتى شغلتَ منصبك الكبير بجدارةٍ واستحقاق.

أغدق الله عليك من خيرات الدنيا، لكنّك لم تنحنِ لها، ولا ارتميتَ يوماً على كتفها، بل كنتَ تعبُرها بقلبٍ مُعلقٍ بما هو أسمى منها.

كنتَ تنظرُ إلى ما أنعم الله به عليك ليس تفضيلاً، بل اختباراً، وأنك مسؤولٌ عنه يوم تقف بين يديه تعالى. فسعيتَ إلى رضاهُ في دروب الفقراء، وعند أبواب المحتاجين.

كأنك كنتَ تُدرك أن النّعم وسائل لا مقاصد، وأن الغنى الحقيقي ليس هنا، بل هناك حيث لا تبور التجارة مع الله.

وقد أخبرني بعضهم، ممّن أراد أن يُظهر ما خفي من جميلك: أنك كنتَ تمرُّ به وتصافِحُه على نحو العجل، واضعاً “الشيك” في يده، لتَعبُر من جنبه خاطفاً ممّا لا يَسعه حتى ثناؤك، لا تكاد ترفع بصرك في وجهه، ولا تدري يُسراك ما أنفقت يَمِينك.

ويُخبرني أحدهم أنه في أيّام مرضك كنتَ تُرسلُ له مبلغاً من المال عن طريق ابنك السيّد محمد تحت عنوان “الأمانة”، مشفوعة باعتذار عن التقصير.

حقاً، لا أدري أيُّ ألمٍ فيك كان أصدق؟

أوجاعُ الجسدِ المنهكِ، أم أوجاعُ الضميرِ المثقلِ بأحوال المحتاجين؟

سيدنا أبا محمد، قد استمعنا إلى التسجيل الذي أرسلتَه للشيخ يوسف الخضير عبر “الواتساب”، حين طلب منك مساعداتٍ للفقراء. كان صوتُك واهناً، أنهكه المرض، لكنّه ظلّ مغموراً بالعطاء، تُغدق وتعتذر بخجلٍ وتواضع، وكأنك أنت المقصّر بعد كلّ ذلك السخاء.

نحن نعلم أنك لا تَرضى أن يُكشف سرٌّ ما بينك وبين الله،

لكنّنا — نحن والمجتمع — بحاجة إلى أن نعرف كيف عاش أمثالك، وكيف قضَوا أعمارهم في السعي إلى مواطن رضا الله تعالى.

وكذلك نقل لنا الخال الدكتور السيد علي موقفك مع ذلك العراقي في حضرة الإمام الرضا «ع»، الذي جلس بجنبكم، حين تفطنتَ إلى حاجته، فبادرت إلى مساعدته بوضع المال في يده بخفة، محافظاً على كرامته وماء وجهه، ثم قمت للرحيل بهدوء وكأنك لم تفعلْ شيئاً.

في الحقيقة، أعلم أن حكاياتِ تِجارتِك مع الله أكثر ممّا يمكن أن أحصيها الآن، كنتَ من خيار المُقرضين، الذين قال الله تعالى في شأنهم: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً}، وقد علمنا كيف ضاعف الله وبارك في مالك في الدنيا، ولكن ليت هناك من يُخبرنا كيف جزاك الله وعوضك في عالمك الآخر، ذلك الأجر الذي لا يسعنا نحن أبناء الدنيا استيعابُه أو تخيّلُه.

أبا محمد، أتذكر ذلك اليوم في مجلس الخال سلمان، حين سألتُك: لماذا لم تركب موجة الأسهم عام 2006 مع الناس

التفتَ إليّ بابتسامةٍ عريضة، كأنك تضحك من مكر الدنيا وكيف أفلتَّ منها، وقلتَ: ‘لقد انتقدني الزملاء والأصدقاء كثيراً حينها، وقالوا إنني أفوّت فرصة عظيمة. وتحت ضغطهم، دخلتُ بمبلغٍ بسيط، سرعان ما سحبتُه، وما كان يمنعني إلا خشية أن ينشغل فكري بتقلّبات السوق، فينعكس ذلك على صلاتي.

وأتذكر ممّا قلتَه لي: كانت أختي قد أعطتني مبلغاً بسيطاً لتتربح منه، لكنها خسرت في الأسهم، وعوضتُها دون أن تعلم، حتى لا ينكسر خاطرها.

نعم يا أبا محمد، لقد ربحت حين خسر الآخرون؛ لأنك عرضت تجارتك على الله، فقبِلها بقبول حسن، ووفقك لتشتري من العقار ما كان أوسعَ ربحاً، وأعظم من ذلك كلِّه الأجرَ والثوابَ الذي اِدْخَرتهُ لك ملائكة الرحمن في خزائن السماء ليومك هذا.

لم يهنأ لك بالٌ حتى رأيتَ إخوانك قد سكنوا منازلهم، بعدما وهبتهم الأرض ليزرعوا عليها أحلامهم ويقيموا عليها حياتهم. ولم تقتصر يدك الكريمةُ على القُربى فقط، بل امتدت إلينا نحن جيرانك في “الحلّة”، فأخذتنا معك إلى فريق “الرمل”، ممهِّداً لإخواني درب الأرض بفرصة نادرة لشرائها بسعرٍ رخيص، لم يكن ليشكّل عبئاً عليك لو رغبتَ في امتلاكها، لكن روحك الكبيرة اتّسعت لإخوانك وجيرانك، فارتفعت أسقف منازلنا ببركة نصيحتك وإتاحتك الفرصة لهم.

حقًّا يا أبا محمد، لستَ كغيرك من الأغنياء، لم يتسلّط عليك طمعُ اللحظة، ولا حرص الفرصة، بل كنتَ ملاذاً يفتح أبوابه لمن حوله، تغرس الخير حيثُما خطوت، فغدوتَ قدوة في العطاء والكرم.

دعني أخبرك أبا محمد، كيف استقبلتْ القرية نبأ رحيلك: كان الصباح شاحباً، والهواء مثقلاً بالحزن، وكأن البيوت تنعى. خيّم السكونُ على القلوب، لا فرق بين من عرفك ومن سمع بك.

اغرورقت عيون الرجال الذين جاورتَهم في الصلاة والمعاملة، وحزنت النسوة اللواتي لم يعرفنك إلا اسماً مقروناً بالخير، وبكى الفقراء صمتاً، إذ خسروا يداً كانت تمتد بالعطاء إلى بيوتهم.

افتقدك المسجد يا أبا محمد، ذاك الركن الذي كنت تأوي إليه عند كل فريضة، افتقد موطئ قدميك، وصوتَ تسبيحِك، وخشوعِك الذي يسبقك إلى الصفوف.

وليتك رأيت أولادَك كيف انكسر الأمانُ في عيونهم، وكيف ترنّح السندُ في صدورهم. كأنهم عادوا أطفالًا ذاقوا طعم اليُتم وهم رجال، كما لو أن رحيلك رسم فوق جباهِهم ظلاً من الحنين لا يزول.

أما إخوتك، فقد طواهم الحزن طيّاً، يوم رحيلك أعاد لهم مشاعر فقد الأب مرة اخرى، بعدما كنتَ لهم أباً ثانياً وسنداً لا يعوّض.

رحمك الله أبا محمد.. ما أثقل الفقدَ حين يكون لصاحب القلب الكبير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى