أقلام

ألغاز الكون التي تقودك إلى الله

أحمد الطويل

سلسلة رحلة العقل إلى الله المقالة الثالثة: برهان الحركة والحدوث.

هذه هي المقالة الثالثة في سلسلة “رحلة العقل إلى الله”، والتي نحاول فيها تتبع البراهين التي ساقها الفلاسفة والحكماء لإثبات وجود الخالق. تناولنا في الأسبوع الأول برهان النظم، ثم في الأسبوع الماضي برهان الصديقين، وها نحن اليوم مع برهان الحركة والحدوث، في مغامرة جديدة من التأمل العقلي والتبصّر الوجودي.

مقدمة:

من نظرة في مجرّة بعيدة، أو في نبض قلبٍ حي، أو حتى في تساقط ورقة،

يتكرّر مشهد: حركة، تغير، انتقال كأن الكون لا يعرف السكون.

ولكن لحظة، أليست هذه الحركة هي سرّ كل شيء؟ وإذا كان كل شيء يتغير، فمن الذي لا يتغير؟

هل كل حركة تحتاج إلى محرّك؟ وهل كل ما يحدث يحتاج إلى محدث؟

وهل يمكن للعقل وحده، ومن خلال التأمل في هذا التغيّر الكوني، أن يصل إلى الله؟

في هذه المقالة، لن نُقدّم أجوبة جاهزة، بل سنخوض مغامرة عقلية وبصيرة روحية، نتأمل عبرها برهاني الحركة والحدوث، كما طرحهما الحكماء من أرسطو، إلى ابن سينا، ثم في أوجه تجديده العميق مع صدر المتألهين الشيرازي، الذي لم يكتفِ بوصف الحركة، بل أراها تسري في لبّ الوجود.

إشراقة البداية: ما وراء التغيّر

كيف يمكن لحركةٍ بسيطة أن تهزّ أعماق الوجود؟ وهل للتغيّر الذي نراه حولنا أن يكون دليلًا على سرٍّ أعظم، أزلي لا يتغير؟

من المدهش أن أبسط ما نلاحظه في حياتنا اليومية

من تغيّر في الطقس، إلى ولادة الكائنات وموتها،

يمكن أن يكون بوابة لسؤال فلسفي رهيب: من أين جاء كل هذا؟ ومن يُديمه؟

إذا كان كل ما حولنا متغيرًا، فذلك يعني أنه غير مكتفٍ بذاته. فالمتحرّك لا يُحرّك نفسه. والحادث لا يُحدِث ذاته. وبالتالي، لا بد أن ننطلق من هذه الظواهر لاكتشاف ما وراءها، نحو ثابتٍ لا يتحرك، وقديمٍ لا يسبقه عدم، وغنيٍّ لا يحتاج إلى غيره.

من أين تبدأ الحركة؟

الفلاسفة قالوا: الحركة ليست مجرد تحرّك من مكان إلى مكان، بل هي خروج الشيء من “القوّة” إلى “الفعل”، أي من الإمكان إلى التحقّق.

ولكن من الذي يُخرج الشيء من القوّة إلى الفعل؟

لا يمكن للشيء أن يُحرّك نفسه وهو ما يزال “قوّة”. لا بد له من محرّك خارجي.

ومتى ما قلنا إن هناك محرّكًا خارجيًا، وكان هو الآخر متحرّكًا، فإننا سنحتاج إلى محرّكٍ له أيضًا، وهكذا.

ولو استمر التسلسل دون بداية، فلن تتحرّك أي حركة أصلًا!

فلا بد أن تنتهي هذه السلسلة إلى محرّك أول، لا يتحرّك، لأنه فعلٌ خالص، وكمالٌ محض، وواجب الوجود.

الحدوث بوابة البحث عن البداية

برهان الحدوث يسأل: هل هذا الشيء موجود منذ الأزل؟

إذا لم يكن أزليًا، فهو حادث، أي له بداية. وكل شيء له بداية، لا يمكن أن يخلق نفسه، إذ لم يكن موجودًا أصلًا.

ننظر إلى العالم فنجد تغيّرًا مستمرًا: نشوء وانقراض، نمو وذبول، بدايات ونهايات.

هذا يعني أن العالم حادث. وكل حادث لا بد له من مُحدِث.

هنا قال المتكلمون المسلمون: كل ما في الكون من تغيّر يثبت أن هناك محدثًا أولًا.

لكنهم اعتمدوا على تغيّرات سطحية كالسخونة والبرودة والحركة في الأجسام، مما يجعل برهانهم مقصورًا على العوارض، لا على ذات الوجود.

جوهرية الحركة: معجزة صدر المتألهين

الفيلسوف الإسلامي الكبير صدر المتألهين الشيرازي أحدث ثورة معرفية حين قال: الحركة ليست فقط في العوارض، بل في ذات الأشياء، في جوهر الوجود.

بمعنى: العالَم كلّه في تغيّر مستمر في جوهره، وليس في ظاهره فقط.

هذه الرؤية تُعمّق برهان الحدوث وتجعله شاملًا. فإذا كان جوهر العالم متغيرًا، فهو محتاج في كل لحظة إلى من يُحدِثه ويمنحه الوجود. وليس فقط في بداية خلقه.

وهكذا أصبح كل لحظة من لحظات العالم دليلًا على حاجته إلى الله، لا فقط لحظة البداية.

هل يكفي هذا لإثبات وجود الله؟

وقد تحدثنا في الأسبوع الماضي عن برهان الصديقين، وهو البرهان الذي ينطلق من ذات الوجود، لا من صفاته أو تغيراته، ليصل مباشرة إلى واجب الوجود من دون المرور بوسطاء.

أما برهان الحركة وبرهان الحدوث فهما يوصلان إلى أن هناك مَن يُحرّك، ومَن يُحدِث.

لكن من هو هذا “المحرّك”؟ وما صفاته؟ هل هو واجب الوجود؟ قديم؟ غني عن غيره؟ أم ممكن وضعيف ومحتاج أيضًا؟

لهذا، قال الفلاسفة: هذه البراهين تُمهّد الطريق، لكن لا تُثبت ذات الله بصفاته الكاملة.

ولهذا يأتي برهان أعمق كـبرهان الإمكان والوجوب أو برهان الصديقين،

ليثبت أن هذا المحدث أو المحرك لا يمكن إلا أن يكون واجبًا بنفسه، غنيًا عن غيره، موجودًا بذاته، لا يسبقه عدم، ولا يلحقه فناء.

اعتراض مشهور: هل التسلسل فعلًا مستحيل؟

قد يقول قائل: وما المشكلة لو استمرت سلسلة المحرّكات والمحدثات إلى ما لا نهاية؟

الفلاسفة أجابوا: إذا لم توجد بداية، فلن يبدأ شيء.

مثال بسيط: لو قلت لن تطبخ الطعام حتى يأذَن لك شخص، وهذا الشخص لن يأذَن حتى يأذَن له آخر، وهكذا بلا نهاية،

فلن يُطبخ الطعام أبدًا!

وهكذا فإن التسلسل في العلل الفاعلية مستحيل،

لأن كل فاعل فيها يعتمد على غيره، ولن يتحقق الفعل أبدًا ما لم يكن هناك فاعل أول، محرّك أول، مبدأ لا يحتاج إلى مبدأ.

الخلاصة:

كل حركة في الكون، وكل لحظة حادثة، تهمس في أذن العاقل: “أنا لم أكن، ثم صرت. ولم أصر بذاتي.”

الكون يصرخ بالحاجة. والحاجة دليل على الفقر.

وهذا الفقر الوجودي لا يُملأ إلا من مصدر لا يفتقر: الله.

برهان الحركة يُعلّمنا أن كل فعل يحتاج إلى فاعل.

وبرهان الحدوث يُنذرنا أن كل حادث يحتاج إلى مبدأ.

لكن لا يكتمل الطريق إلا إذا فتح العقل قلبه لنورٍ أصفى برهان يُثبت أن الله هو الوجود بذاته، وليس مجرد محرّك للعالم.

يا من حركتَ الوجود بلطائف حكمتك، وبدأت الخلق من غير مثال سابق، وأقمت الحركة على نظامٍ لا يختل، ارزقنا بصيرة ترى في كل حركةٍ إليك سبيلاً، وفي كل حادثةٍ دليلاً على أزليتك. اجعلنا يا الله من العارفين بك، لا بحجة ناقصة، بل بنورك الذي لا يطفأ، وبحقك الذي لا يزول، إنك أرحم الراحمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى