سلسلة إثبات وجود الله تعالى – المقالة الرابعة

أحمد الطويل
تنويه:
هذه المقالة هي الرابعة ضمن سلسلة المقالات الفكرية في إثبات وجود الله تعالى، والتي سبقتها مقالات: برهان النظم، وبرهان الصديقين، وبرهاني الحركة والحدوث. أما هذه الورقة، فتتناول واحدًا من أعمق البراهين العقلية التي عبّر عنها كبار فلاسفة الإسلام: برهان الإمكان والوجوب، كما بيّنه ابن سينا، والخواجة نصير الدين الطوسي، وتعمّق فيه صدر المتألهين الشيرازي في حكمته المتعالية، وقدّم له العلامة الجوادي الآملي تحليلًا معاصرًا في كتابه “تبيين البراهين”.
كل شيء يمكن أن لا يكون فمن الذي لا يمكن أن لا يكون؟
مقدمة:
بداية الأسئلة الصامتة.
هل خطر في بالك يومًا أن كل ما حولك يمكن ألّا يكون؟
السماء، الأرض، النجوم، البشر، بل أنت نفسك، هل وجودك ضروري؟ أم أنك مجرد احتمال وُجد بفضل شيء آخر؟
وهل يمكن أن يكون “الشيء الآخر” هذا، هو أيضًا غير ضروري؟
فإذا كان كل شيء “ممكن الوجود”، فمن الذي يملك الوجود بالذات، ولا يحتاج إلى شيء خارجه؟
هكذا يبدأ الفلاسفة برهان الإمكان والوجوب. ليس من الطبيعة، ولا من الحواس، بل من أعمق نقطة في العقل: من تحليل الوجود نفسه، وتصنيفه.
الطريق إلى الله عبر الإمكان
يقوم هذا البرهان على تقسيم عقلاني بسيط، لكنه مذهل. هناك موجودات نرى أنها توجد وقد لا توجد، أي لا ضرورة في وجودها بذاتها. كالشجر، والحجر، والإنسان، وحتى الكواكب والمجرّات. هذه يسمّيها الفلاسفة: ممكنات الوجود.
أما واجب الوجود، فهو الموجود الذي لا يمكن أن لا يكون. وجوده ضروري، ليس له بداية ولا علة، لأنه لا يستمد وجوده من غيره.
بعبارة أخرى، الممكن هو المحتاج. والواجب هو الغني.
الممكن مخلوق. والواجب هو الخالق.
سلسلة الممكنات التي لا يمكن أن تستمر
هنا يطرح الفيلسوف الإسلامي السؤال الأهم:
إذا كان الممكن لا يوجد من ذاته، فلابد أن يكون له علة.
لكن، ماذا لو كانت هذه العلة ممكنة أيضًا؟
فستحتاج إلى علة أخرى، وهكذا، هل يمكن أن تستمر السلسلة إلى ما لا نهاية؟
ابن سينا أجاب: كلا.
لأن التسلسل في العلل إذا استمر بلا نهاية، فلن يتحقق أي وجود. لا يمكن أن تعتمد كل الحلقات على بعضها دون أن تكون هناك بداية.
إنه كما لو أردت أن تشعل مصباحًا، لكنه لا يضيء إلا إذا أضاء المصباح الذي قبله، والذي قبله لا يضيء إلا بمصباح آخر، ولا يوجد مصباح أول. فهل تضيء أيّ من المصابيح؟ أبدًا.
إذن، لابد من علّة أولى، وجودها من ذاتها، وهي التي منحت الوجود لكل ما سواها.
ذلك هو واجب الوجود، الله سبحانه وتعالى.
الممكن لا يغني عن الممكن
الشيخ الجوادي الآملي في كتابه “تبيين البراهين” يشرح أن الممكن لا يغني عن ممكن، لأن جميع الممكنات تحتاج إلى غيرها. وإذا كان كل الممكنات مفتقرة، فلا يمكن أن تغني بعضها بعضًا.
ويؤكد أن الفهم الدقيق للإمكان ليس فقط من حيث البداية، بل في دوام الوجود أيضًا. أي أن الممكن لا يحتاج إلى الله فقط في لحظة الخلق، بل هو محتاج إليه آنًا بعد آن. تمامًا كما يحتاج الضوء إلى المصباح في كل لحظة ليبقى.
هذه الرؤية العميقة، كما يبيّنها صدر المتألهين الشيرازي، تؤدي إلى توحيد وجودي عميق: لا استقلال في الكون لحظة واحدة عن مبدأه، بل كل شيء مرتبط بالحق تعالى في أصل وجوده واستمراره.
الفرق بين الممكن والواجب
إن الممكن لا يملك من نفسه إلا “قابلية الوجود”. فهو لا موجود بذاته، ولا معدوم بذاته، بل ينتظر أن يُمنح الوجود من علة خارجة عنه.
بينما واجب الوجود، هو الكائن الوحيد الذي لا يُتصوَّر عدمه، لأنه علة كل وجود. لا يقبل العدم، ولا يتوقّف على غيره. هو الموجود بذاته، وبه يوجد غيره.
والفرق بينهما هو فرق بين الافتقار والاستغناء، بين من هو في حاجة دائمة، وبين من هو عين الغنى.
ما بعد البرهان: حضور الله في أعماق الوجود
لا يقتصر برهان الإمكان والوجوب على إثبات وجود الله، بل يكشف عن نوع العلاقة بين الله والعالم: علاقة دائمة، مستمرة، أزلية.
الله ليس فقط من أوجد العالم في لحظة، ثم تركه وشأنه، بل هو قائم عليه في كل آن. هو مبدأ الوجود، وسر البقاء، وعلّة كل حركة وظهور.
وكأن الكون يصرخ في كل لحظة: أنا لا أكون إلا بك.
الخلاصة:
برهان الإمكان والوجوب يأخذنا من ملاحظة الوجود الممكن الذي لا يملك وجوده من ذاته إلى إدراك الحاجة إلى وجود واجبٍ غني، لا يعتمد على غيره، ولا يتوقّف وجوده على شيء.
فالوجود إما أن يكون ممكنًا، يحتاج إلى علّة، أو واجبًا، غنيًّا في ذاته.
ولا يمكن للممكنات أن تتسلسل إلى ما لا نهاية، لأنها عندئذٍ لا تفسّر وجود أي شيء. بل تحتاج إلى مبدأ أول، هو الله، واجب الوجود بالذات، مصدر الكمال، ومعطي الوجود، الذي لا يُتصوّر في العقل أن لا يكون.
الفلاسفة المسلمون من ابن سينا، إلى الطوسي، إلى صدر المتألهين أثبتوا بهذا البرهان أن كل ما في العالم يشير إلى مبدأ لا يشبهه شيء، موجود لا يُستغنى عنه، غني بذاته، لا يحتاج إلى سبب، بل هو سبب الأسباب.
يا من بوجودك وُجد كل شيء، وبغناك افتقر كل شيء، أرنا وجهك في كل ممكن، وعرّفنا بك من خلال حاجتنا إليك، وازرع في قلوبنا يقينًا لا يزول بأنك الأصل الذي لا أصل قبله، والنور الذي لا ظلمة معه، يا واجب الوجود، يا من لا يكون إلا أن يكون.