لعبة الفهد – الحلقة السادسة عشر: فهد في قلب العاصفة

ابراهيم الرمضان
عادت بفهد الذاكرة إلى أكثر من 10 سنوات مضت، حين كان طالبًا منتظمًا في كلية الهندسة.
خرج من المنزل متجهًا إلى الجامعة، حيث كان صديق طفولته هاشم (الذي أصبح لاحقًا “أبو حميد” حارس مدرسة أخيه علي) ينتظره في السيارة. لم يكن هاشم ناجحًا في دراسته، فقد تعثر كثيرًا في المرحلة المتوسطة وبالكاد أنهى دراسته، ليكتفي بالشهادة المتوسطة في النهاية. استقر به الحال كحارس مدرسة قريبة من الجامعة التي يدرس فيها فهد.
كان نظام الحراسة في المدرسة يعتمد على وجود حارسين، ولذلك اتفقا على جعل دوامهما أكثر مرونة بحيث يحضر الأول في ساعات الفجر وحتى قبل منتصف النهار، بينما يبدأ هاشم دوامه متأخرًا قليلًا ليستمر حتى نهاية اليوم الدراسي، وهو ما منحه مرونةً كافية ليقلّ فهد في طريقه إلى الجامعة قبل أن يتجه إلى عمله.
فهد (وهو يغلق باب السيارة بسرعة):
– تحرك يا هاشم، كدنا أن نتأخر!
نظر هاشم إلى يدي فهد، ثم رفع حاجبه قائلًا بنبرة متحفظة:
– أظنك نسيت شيئًا.
رمش فهد باستغراب وهو ينظر إلى يديه، ثم قال ساخرًا:
– لا شيء ناقص! هذه حقيبتي، وفيها مذكرتي وأدواتي الهندسية… هل نسيت أن أحضر روحي معي مثلًا؟!
لم يكد هاشم يفتح فمه للرد حتى سبقهما صوت صياح أم فهد من داخل المنزل! عندها فقط أدرك فهد ما الذي نسيه!
هاشم (وهو يفتح نافذة المقعد الجانبي حيث يجلس فهد، ويهز رأسه بأسى):
– ها قد علمت! قلتها لك مرارًا… ليس هناك ما هو أخطر من الجوع إلا غضب الأمهات!
وقبل أن يكمل جملته، كانت وجبتا الإفطار قد وصلتا إليهما على هيئة “قذيفتين محكمتي التصويب” ألقتها أم فهد مباشرة من باب المنزل!
أم فهد (وهي تضع يديها على خصرها وتحدق به بصرامة مشوبة بالسخرية):
– إياك أن تتخطى هذا الباب دون أن تلقي نظرة على طاولة الطعام! أم أنك أصبحت تتغذى على ضغط الامتحانات وحده؟!
هاشم (وهو يضحك بينما يلتقط الطعام بسرعة):
– لا عاش من أغضبكِ يا خالتي أروى! وشكرًا على الطعام، فهد كان على وشك تجويعي معه.
وبعد أن انطلقت السيارة بقليل، سمعت أم فهد جلبةً خلفها من داخل المنزل، تنهدت قليلاً، ثم أسندت ظهرها إلى جوار باب الخروج وهي تتمتم بتهكم:
– أها! متأخر آخر… فلنرى ماذا نسي هذه المرة!
كان القادم هو المهندس محمد (أبو فهد)، الذي خرج مسرعًا ليجد زوجته وقد شبكت ذراعيها وأسندت ظهرها جوار الباب، وهي ترمقه بنظرة ساخرة.
أبو فهد (وهو يرفع حاجبيه بتحدٍّ):
– لم أنسَ شيئًا هذه المرة! حتى وجبتي أخذتها معي، وهاتفي المحمول أيضًا!
لم تقل شيئًا، فقط وجهت نظراتها نحو الأسفل حيث قدميه… حينها فقط انتبه! ولم يكن يرتدي حذاء العمل، بل كان منتعلًا صندلًا دون جوارب!
كاد أن يستدير عائدًا، ولكن قبل أن يتحرك، باغتته قائلة بسرعة:
– حذاؤك هنا بالقرب منك، ولا تنسَ أن ترتدي جواربك أولًا… ستجدها بداخله!
جلس بسرعة وهو يرتديهما، بينما تابعت هي بنبرة ساخرة تشبه تمامًا أسلوب ابنها فهد:
– أوَ تحسبني سأنتظر زملاءك في العمل وهم يتغامزون قائلين: ما هذا الرجل الذي يبدو لنا نصف أعزب؟! ثم تظهرني أمامهم كزوجة مهملة حمقاء؟!
أبو فهد (وهو يعدل ياقة قميصه بابتسامة واثقة):
– لا عاش من يتطاول عليكِ يا عزيزتي! سأُفرد عضلاتي على كل من يجرؤ!
أم فهد (وهي تلوّح بيدها دون مبالاة):
– وفر عضلاتك لنضالك في العمل! هيا، تعجَّل وانتبه عند القيادة.
وما كاد أن يتجاوز عتبة الباب حتى توقف فجأة، ثم عاد إليها، حيث لا تزال مسندة ظهرها جوار الباب، مشبكةً ذراعيها، قائلًا بنبرة ذات مغزى:
– أظنني نسيت شيئًا مهمًا جدًا.
أم فهد (وهي ترفع حاجبيها باستغراب):
– لا أظن ذلك، تعرف دقتي في هذه الأمور جيدًا!
اقترب منها فجأة، وباغتها بقبلة على جبينها.
أبو فهد (وهو يبتسم برقة):
– لا حرمني الله منكِ.
ابتسمت أم فهد وهي تضربه بخفة على ظهره، ثم قالت بمزيج من المزاح والجدية:
– حسنًا يا شاطر، اذهب وإلا تأخرت!
عادت أم فهد إلى خارج المنزل، لتجد ابنها علي، البالغ من العمر خمس سنوات حينها، قد استيقظ من نومه، فأخذته معها إلى المطبخ لتناول فطوره الذي كانت قد أعدّته قبل قليل.
في هذه الأثناء، كان فهد قد وصل أخيرًا إلى الجامعة. كان لديهم امتحان نصفي لمقرر “التلوث البيئي”، وبمجرد أن نزل من السيارة، بدأ يركض بسرعة باتجاه القاعة قبل أن يبدأ الدكتور نشأت بتحضير الطلاب. كان الدكتور معروفًا بصرامته الشديدة في مسألة الحضور والانصراف، فلا يقبل تسجيل أي طالب حضر بعد بدء المناداة، حتى لو كان جالسًا أمامه!
استطاع فهد دخول القاعة قبل لحظات من وصول الدكتور، وبمجرد أن استقر في مقعده، مسح القاعة بعينيه سريعًا، ثم تمتم لنفسه:
– عدد الطلاب الحاضرين الآن 44 من أصل 49… هذا يعني أن هناك خمسة طلاب سيسجلهم غيابًا، حتى لو وصلوا بعد لحظة!
فتح الدكتور نشأت حقيبته لاستخراج كشف الأسماء، ولكن فجأة توقف… أين الكشف؟؟!! بحث عنه أكثر من مرة، قلب أوراقه بسرعة، ولكن لا أثر له! زفر بضيق، ثم رفع رأسه ليعلن بصوت حازم:
– يبدو أنني نسيت الكشف في مكتبي، سأذهب لإحضاره وأعود.
خرج من القاعة بخطوات مسرعة، وبينما هو في طريقه إلى مكتبه، فوجئ بالطلاب الخمسة الواقفين عند الباب، يلهثون من الركض، وعلى وجوههم ملامح القلق، كان من الواضح أنهم كانوا بسيارة واحدة. رمقهم بنظرة طويلة قبل أن يقول بنبرة ساخرة:
– أنتم محظوظون… يبدو أن كشف الأسماء شعر بالحنان عليكم فقرر الاختباء عني اليوم!
قال ذلك بينما كان فهد في الخلف يلوح لهم بالكشف الذي كان في يده طوال الوقت، وعندما التفت الدكتور نحوه، ابتسم فهد بخبث وقال:
– عذرًا دكتور… ولكن لا أستطيع أن أرى خمسة أرواح تُزهق أمامي دفعة واحدة، هذا قد يُعد “تلوثًا بيئيًا” من نوع آخر!
نظر إليه الدكتور نشأت مطولًا، ثم ضيق عينيه وكأنه يزن الأمور، قبل أن يهز رأسه قائلًا بجفاف:
– لا أعرف إن كنت عبقريًا أم محتالًا يا فهد، ولكنني سأسمح لهم بالدخول هذه المرة فقط!
تنفس الطلاب الخمسة الصعداء، وبادلوه الابتسامات والامتنان، بينما فهد استند إلى الباب قائلًا بهمس:
– أجل، أنتم مدينون لي بالكثير… وسأطالبكم بالسداد لاحقًا!
عاد الدكتور إلى القاعة، وبدأ بتوزيع أوراق الامتحان. عندما وصل إلى فهد، مال نحوه قليلًا وقال بنبرةٍ فيها تحدٍّ خفيّ:
– حسنًا يا فهد، لقد فزت بهذه الجولة، ولكن فلنرى من سيفوز بالجولة القادمة… أرني أفضل ما عندك إن استطعت.
أخذ فهد نفسًا عميقًا، ثم تمتم لنفسه بابتسامة جانبية وهو يستلم ورقة الامتحان:
– يبدو أننا انتقلنا من نظام التعليم إلى بطولة الملاكمة، ينقصني فقط أن يرفع الدكتور يده قبل بدء الامتحان ويصرخ: “جاهزون؟! انطلقوا!”
ما إن وقعت عيناه على الأسئلة حتى تجمدت ابتسامته، واتسعت عيناه في ذهول! حملق في الورقة وكأنه يراها بلغة لم يدرسها من قبل، ثم التفت سريعًا ليُطالع وجوه زملائه، فلم يجد سوى تعبيرات شاحبة وكأنهم قد دُفنوا أحياءً قبل لحظات!
بدأ فهد يتمتم في نفسه مجددًا:
– هل نحن في قاعة امتحان أم في مأتم أكاديمي؟! كان ينقصنا فقط قارئ عزاء يترحّم على أرواحنا العلمية الراحلة!
شعر أن الأسئلة لا علاقة لها بمقرر “التلوث البيئي”، بل بدت وكأنها “التلوث بحد ذاته!”، وكأن من وضعها دكتورٌ يعاني من “تلوث فكري حادّ ومعدٍ”!
عاد فهد إلى المنزل بعد أن قدَّم ما عليه وترك الباقي على رب العالمين. وبينما كان يهمُّ بالدخول، صادف أم موسى وهي في طريقها للخروج. رحَّب بها بحرارة وسألها إن كانت تستطيع البقاء لتناول الغداء معهم، ولكن ملامحها لم تكن على ما يرام. ابتسمت ابتسامة باهتة واعتذرت بلطف:
– سأزوركم في وقت آخر، عندما تكون الظروف أفضل.
ثم غادرت بسرعة، وكأنها كانت تهرب من شيء ما.
راقب فهد خروجها وهو يشعر أن هناك خطبًا ما، فلم يكن معتادًا على رؤيتها بهذه الحالة. دخل المنزل مباشرةً واتجه إلى والدته وسألها بقلق:
– ما بها الخالة أم موسى؟ لم تبدُ على طبيعتها.
تنهدت والدته وهي تجلس قائلة:
– أبو موسى في ورطة كبيرة، لقد وقع ضحية عملية احتيال.
رفع فهد حاجبيه بدهشة، فواصلت والدته الحديث:
– وجد ملصقًا صغيرًا على أحد أعمدة الإنارة، لشخص يدَّعي أنه يقدِّم خدمة تسديد القروض بطريقة شرعية وميسرة، مقابل الحصول على قرض جديد. توهم المسكين أن الرجل فاعل خير، يريد مساعدة المحتاجين وتخفيف أعبائهم مقابل عمولة بسيطة!
هنا، ازدادت دهشة فهد وهو يستمع، وواصلت والدته:
– جعله ذلك المقرِض يوقِّع على كمبيالة مقابل شراء سيارة بالتقسيط، قبل أن يكتشف أن العمولة التي سيدفعها تفوق أصل الدين بأضعاف!
اتسعت عينا فهد مصدومًا، ولكنه لم يعلق، فواصلت والدته بنبرة أكثر إحباطًا:
– وليس هذا فقط! بل تبيَّن أن السيارة التي وقَّع على تمويلها، ليبيعها ويسدد القرض، كانت مملوكة أصلًا لمعرض السيارات التابع لهذا المحتال نفسه! لقد احتال عليه بأسلوب احترافي، وأبو موسى لم يدرك ذلك إلا بعد فوات الأوان… والمسكينة أم موسى لا تعرف كيف تخرج زوجها من هذه الورطة.
ضاقَت عينا فهد بحذر، وشعر أن هناك شيئًا مألوفًا في القصة… نظر إلى والدته وسألها ببطء:
– لا تقولي لي إن المحتال هو… أبو مشاري؟!
أومأت والدته برأسها بحزن وقالت:
– بلى، هو ذاته…
ضغط فهد على أسنانه وهو يستوعب الموقف… كان أبو مشاري حينها في بدايات توسُّعه الاحتيالي، ولم يترك مجالًا إلا واستغله لخداع الناس! كان يستهدف بإعلاناته الأحياء التي تسكنها الأسر ذات الدخل المحدود، حيث يبحث الناس عن أي فرصة للخلاص من أزماتهم المالية، ليوقعهم في فخ ديونٍ لا مخرج منها.
دخول خالد المفاجئ … أعاد فهد إلى الحاضر، حيث سلّمه الكيس كما طلب. تفحص فهد محتوى الكيس سريعًا، ثم توقف فجأة! رفع رأسه لينظر إلى خالد بنظرة غاضبة.
خالد (متوترًا):
– لماذا تنظر إليّ هكذا؟! أنت لم تحدد لي أي كيس تقصد، حسبتك تقصد هذا!
فهد (بحدة):
– أظن أني قلت لك: “ما سرقناه من الفندق”، لقد حددت لك ذلك بوضوح!
خالد (يحاول التبرير):
– ألم يكن هناك كيسان؟! لم تحدد أيهما! تصورت أن الآخر أكثر أهمية.
فهد (يضع يديه على خصره ساخرًا):
– بلى، هذا لو كان الكيس الآخر لا يزال يحتوي على شيء من مسروقات الفندق! ولكن… هلا تفضّلت بالنظر إلى داخل هذا الكيس؟ هل ترى فيه شيئًا مما سرقناه من الفندق؟! نعم، أتذكر أني قلت لك حينها: “حتى القمامة قد تكون ذات قيمة إذا عرفت كيف تستخدمها”، ولكن لم أقصد أن تحضر (القمامة) حرفيًا!!
نظر خالد إلى داخل الكيس…
فعلًا!! لا شيء سوى القمامة! بقايا علب مشروبات غازية، وفتات آخر وجبة عشاء تناولاها في المخبأ وقد أصابها العفن، ومناديل ورقية مستعملة، وأشياء أخرى لم تعد ذات فائدة.
خالد (متلعثمًا وهو يرمق فهد بحرج):
– أأأأ… في الواقع…
فهد (غاضبًا، مشيرًا نحوه بعصبية):
– وأتذكر جيدًا أني طلبت منك أن ترمي هذه القمامة بالحاوية! واضح أنك لم تفعل!!! أنت لا ينبغي أن تكون هنا، بل هناك، في تلك البلدة الغبية حيث جلمود قريبك، المليئة بالجلاميد الحمقى مثلك! يجب أن أرميك وسطهم، عسى أن يقذفك أحدهم بجلمود صخر، فيُخرج بعض الدم الفاسد من رأسك، لعلّ دماغك يعمل ويصبح لك فائدة!
خالد (رافعًا يديه محاولًا تهدئته):
– حسنًا، حسنًا يا فهد، لا تغضب! أنا مستعد للعودة سريعًا لجلب ما تريد.
وبينما كان خالد يتجه نحو الباب، هتف فيه فهد بحدة:
– خذ هذا معك.
ثم رمى كيس القمامة عليه، لتتناثر بعض محتوياته على الأرض. انحنى خالد بسرعة يلتقطها وهو يتمتم بكلمات غير مفهومة، ثم خرج مسرعًا. في هذه الأثناء، كان أبو فهد وناهد يحاولان جاهدين أن يتمالكا نفسيهما من الضحك، ولكن بلا فائدة!
جلس فهد ومسح على وجهه محاولًا تهدئة أعصابه، ثم زفر ببطء وقال:
– حسنًا يا ناهد، أين وصلنا؟
ناهد، التي كانت لا تزال تكتم ضحكتها بصعوبة، تنحنحت قليلًا قبل أن تستعيد جديتها:
– وصلنا إلى أبي مشاري، الذي كان يستهدف بإعلاناته الأحياء التي تسكنها الأسر ذات الدخل المحدود.
فهد، وهو يهز رأسه ببطء وكأنما يسترجع الذكريات بامتعاض:
– آه! نعم… ثم أخبرتني أمي بما هو أدهى وأمر!! كان جشع ذلك الحقير فوق ما كنا نتخيل. بالرغم من أن أبا موسى كان رجلاً كيسًا وفطنًا، إلا أنني لا أدري ما الذي جرى له في ذلك الحين! يبدو أن الحاجة قد أفقدته كياسته!
توقف لحظة، ثم تابع بحدة، وكأنما لا يزال غير مصدق:
– جعله أبو مشاري يوقّع على رهن بيته كضمانة! أوهمه بأن هذا مجرد إجراء رتيب لا أكثر!!
اندهشت ناهد لما سمعته، وعقدت حاجبيها بدهشة حقيقية، بينما عاد فهد بذاكرته إلى ذلك الزمن، حين كانت أم فهد تكمل على مسامعه تفاصيل مصيبة أم موسى.
قالت أم فهد بصوت مفعم بالقلق:
– المشكلة الآن أنهم مهددون بالطرد من منزلهم! أم موسى تبحث عن أي وسيلة لإنقاذهم من هذا المصير… تريد الوصول إلى أهل الخير الذين قد يساعدونهم، أو على الأقل، تبحث عن شخص يستطيع التأثير على أبي مشاري ليتنازل عن بعض مطالبه.
نظر فهد إلى والدته حينها، كان الغضب واضحًا في عينيه، ولكنه ظل صامتًا للحظات، وكأنما كان يستوعب حجم المأساة.
– تشريد؟! يتمرغ هو في الملايين ولا يكفيه ذلك؟! يريد أن يسرق حتى بيوت الناس؟!
أم فهد تنهدت وقالت بحسرة:
– يا بني، الجشع لا حدود له، وخاصة عند من باع ضميره منذ زمن.
اتجه فهد إلى غرفته وهو يفكر في مشكلة أم موسى، لم يكن بإمكانه أن يهنأ له جفن وهي تعيش هذا القلق. كان يعلم أن عليه التصرف بسرعة، فكل يوم يمر، يزداد خطر فقدانهم لمنزلهم.
في اليوم التالي، وبينما كان أبو موسى يحتسي قهوته بعد صلاة الفجر، سمع طرقًا على الباب. نهض ببطء، وهو لا يتوقع زائرًا في هذا الوقت المبكر. وحين فتح الباب، وجد فهد ماثلًا أمامه، بابتسامته الهادئة المعتادة. رحب به بحرارة وأدخله إلى المنزل، ولكنه لاحظ أن فهد بدا مستعجلًا، وكأنه لا يريد البقاء طويلًا.
قال فهد بنبرة مطمئنة وهو يضع مجموعة مستندات في يده:
– لن أطيل عليك، صديقي هاشم ينتظرني في السيارة، وأنا في طريقي إلى الجامعة… ولكن كان يجب أن أمر عليك أولًا.
نظر أبو موسى إلى الأوراق في يده باستغراب، ثم رفع عينيه نحو فهد، وكأنه يسأله عن ماهيتها.
اقترب منه فهد قليلًا، وقال بصوت خافت ولكنه حازم:
– لا توقع نفسك مجددًا في مثل هذه المواقف، أنت رجل كيس فطن، هذا ما عرفته عنك دائمًا… لا تسمح لأحد بأن يستغل حاجتك.
ثم استدار سريعًا، وقبل أن يتمكن أبو موسى من استيعاب الأمر، كان فهد قد غادر. وقف أبو موسى في مكانه لثوانٍ، ينظر إلى الباب الذي خرج منه فهد، ثم إلى الأوراق التي في يده. تسارعت أنفاسه، وبدأ يقلبها بعجلة… ثم فجأة، اتسعت عيناه!
كانت هذه هي المستندات التي استخدمها أبو مشاري لابتزازه… بما فيها العقد الذي وقع عليه برهن منزله!
شعر وكأن جبلًا كان جاثمًا على صدره قد أُزيح في لحظة! لم يتمالك نفسه، دمعت عيناه من الفرح، ورفع يديه إلى السماء يدعو لفهد بحرارة، ذلك الشاب الذي أنقذه من هذه الورطة التي كادت أن تطيح بحياته وحياة أسرته.
عاد فهد إلى منزله بعد يوم أكاديمي طويل، ولكنه شعر براحة غريبة لم يعهدها منذ فترة. حلُّه لمعضلة أبي موسى كان فألًا حسنًا عليه، حيث تفاجأ اليوم بحصوله على درجة لم يكن يتوقعها في مقرر “التلوث البيئي”، صحيح أنها لم تكن من الدرجات العالية، ولكنها كانت كافية لتمنحه شعورًا بالأمان.
ما أن دخل المنزل حتى استقبلته والدته بوجه مشرق وابتسامة دافئة، وكأنها كانت بانتظاره.
قالت بحفاوة وهي تضع يدها على كتفه:
– أم موسى اتصلت اليوم… كانت ممتنة لك جدًا، لم تتوقف عن الدعاء لك.
ثم توقفت قليلًا، وأردفت بصوت يحمل مزيجًا من الفخر والعتاب:
– مع أنني أكاد أعتب عليك لأنك لم تخبرني! كان عليك أن تطلعني على الأمر منذ البداية، فمثل هذه الأمور ليست سهلة، وقد تكون محفوفة بالمخاطر… على الأقل كنت سأرتب لك خطة هروب بديلة لو ساءت الأمور!
ثم نظرت إليه بجدية مصطنعة وأردفت:
– في المرة القادمة، لا تلعب دور البطل وحدك، يجب أن تشركني في الأمر، فلعلّك تحتاج إلى مساعدة… وأنا دائمًا هنا من أجلك، حتى لو اضطررتُ لاقتحام مقر العدو بنفسي!
نظر فهد إلى أمه، شعر في تلك اللحظة بمدى قلقها عليه، ولكنها كانت تحاول إخفاءه تحت قناع من التماسك. ابتسم لها وهو يقول بنبرة مازحة:
– حسنًا يا أمي، سأجعل منكِ شريكتي في العمليات القادمة! ولكن أرجوكِ، لا تسرقي الأضواء مني.
ضحكت أم فهد وهزت رأسها باستسلام، ثم أشارت له بيدها:
– هيا، اغسل يديك، الطعام جاهز… وانتبه! لا تحاول التسلل خارجًا في مهمة إنقاذ سرية قبل أن تخبرني أولًا، على الأقل لأجهز لك وجبة طوارئ تأخذها معك!!
أعجب الوضع فهد، فأصبح منذ ذلك الحين يتتبع أخبار أبي مشاري ومن يراجعونه، كان يترقب أي شخص يبدو في ورطة، وعندما يكتشف أن أبا مشاري يبتزه، يبدأ بجمع المعلومات، ثم يتسلل ليسرق المستندات التي يستخدمها الأخير للضغط على ضحاياه، إما لإعادتها إليهم أو لإتلافها إن تعذّر عليه الوصول إليهم.
ولكنه لم يكن وحده… فقد كانت والدته، وكذلك أم موسى، تلعبان دورًا محوريًا في هذه المهمة السرية، حيث أصبحتا بمثابة شبكة استخباراتية مصغرة، تزوّدانه بالمعلومات عن الضحايا المحتملين، وتساعدانه في التحقق من قصصهم، ليتمكن من التدخل في الوقت المناسب وإنقاذ من يمكن إنقاذه.
ولم يقتصر الأمر على المستندات فقط، بل امتد ليشمل المال أيضًا! متى ما وجد أموالًا لدى أبي مشاري، أو حتى لدى جشعين آخرين من أمثاله، لم يكن ليتردد في أخذ ما يستطيع أخذه… ليعيد توزيعه على من يراه أحوج إليه، مع الاحتفاظ بجزء “رمزي” لنفسه طبعًا، فهو ليس جمعية خيرية تمامًا!
ولكن الأمر لم يدم طويلًا… أبو مشاري لم يكن ساذجًا إلى هذه الدرجة!! لاحظ تكرار فقدان مستندات الضمان بشكل مريب، والأدهى من ذلك، أن الضحايا يتوقفون عن السداد فجأة، وكأنهم أدركوا أن سلاحه ضدهم قد اختفى! بدأ يشك أن هناك من يعبث معه في الخفاء، فقرر التحرك.
أصدر أوامره لبعض المرتزقة الذين يعتمد عليهم في هذه الأمور القذرة، طلب منهم مراقبة من يقف خلف هذه الفوضى. استمر الرصد أيامًا، حيث كانوا يراقبون منزله ومكاتبه عن كثب (نعم، منزله! فلم يكن قد بنى قصره بعد، فما يزال مجرد نصّاب يحلم بأن يصبح إمبراطورًا في عالم الاحتيال!) حتى رصدوا شابًا يتسلل ذات ليلة حاملًا بعض المستندات… كان فهد!
لم يصدقوا في البداية، ولكنه كان هناك، يهرب بوثائق وأموال ليست له! أسرعوا إلى أبي مشاري، وأخبروه بما رأوه. كانت ردة فعله كما لو أن بركانًا قد انفجر داخله! هذا “النصير المزعوم للمظلومين” يجرؤ على العبث معه؟!
أخذ نفسًا عميقًا، ثم قال ببرود شيطاني:
– حسنًا… إذا كان يظن نفسه روبن هود، فسأجعله عبرة لكل من تسوّل له نفسه العبث معي. لن أدمّر حياته فقط… بل سمعته أيضًا!
بدأ أبو مشاري تنفيذ خطته بدم بارد…
أمر مرتزقته بجمع كل المعلومات الممكنة عن فهد، كل التفاصيل الصغيرة التي قد تساعده في قلب الطاولة عليه: مكان سكنه، جامعته، معارفه، وحتى عاداته اليومية. أراد أن يعرف كيف يفكر، كيف يتحرك، وأين يمكن أن يضربه بأقسى طريقة ممكنة.
لم يمضِ وقت طويل حتى وصلت إليه بعض الأسماء من بين الذين كانوا مدينين له، وكان أحدهم يدرس في نفس الجامعة التي يدرس فيها فهد. عندها، راودته فكرة شيطانية…
عقد صفقة مع أحد الآباء المتورطين معه في القروض، وعده بإسقاط جميع الأقساط المتبقية عليه، بشرط أن يقوم ابنه بافتعال مشكلة مع فهد داخل الحرم الجامعي، مما يؤدي إلى إيقاعه في عقوبة انضباطية.
وبالفعل، بدأ تنفيذ الخطة… تم توجيه ابن المدين لاستفزاز فهد، وإثارة غضبه أمام الطلاب وأعضاء هيئة التدريس. وفقًا للمعلومات التي جمعت، كان فهد سريع الغضب وسهل الاستفزاز، وكانوا يعرفون أنه لن يقف مكتوف الأيدي إذا تم استفزازه بالشكل الصحيح.
وهذا ما حدث تمامًا! استمر الابن في مضايقة فهد، مستخدمًا كلمات دقيقة وملامح ساخرة، حتى اشتعل غضب فهد أخيرًا، فانقضّ عليه وسط الطلاب وأعضاء هيئة التدريس، مما أدى إلى استدعائه للتحقيق فورًا.
لم تمضِ ساعات حتى تم إعداد محضر للحادثة، وأُصدر قرارٌ بطيّ قيده الأكاديمي، ليتحول مستقبله من طالب هندسة طموح إلى شاب مطرود من الجامعة، دون أية فرصة لاستكمال دراسته.
هكذا، وبضربة واحدة، حطّم أبو مشاري مستقبل فهد، وقلب الطاولة ضده تمامًا.
لم يتوقف الأمر عند مجرد طيّ قيد فهد من الجامعة، بل قرر أبو مشاري أن يدفنه اجتماعيًا أيضًا. استدعى عددًا من المدينين الآخرين وأغراهم بإسقاط جزء من ديونهم مقابل خدمة صغيرة: نشر إشاعات سيئة عن فهد في محيطه، تشويه سمعته، ووصمه بأنه مشاغب مثير للمشاكل، وربما حتى مجرم صغير يبحث عن المشاكل في كل زاوية.
لم تكن تلك مجرد حملة تشويه عادية، بل كانت ممنهجة.
انتشرت الأقاويل بسرعة، بعضها وصل إلى أساتذته السابقين في الجامعة، وبعضها تسلل إلى أماكن لم يكن فهد يتخيلها. ولكن الأخطر من ذلك، أن أبا مشاري لم يكتفِ بتدمير سمعة فهد فحسب، بل بدأ في الضغط على أبي فهد نفسه.
– أعيدوا ابنكم إلى رشده!
هذا ما سمعه أبو فهد مرارًا من بعض معارفه، من بعض المدينين الذين أصبحوا فجأة “ناصحين”، وحتى من بعض الشخصيات التي كانت محسوبة على العائلة.
أصبح أبو فهد في وضع لا يُحسد عليه، ليس فقط لأنه غاضب من ابنه، ولكن لأنه حتى قبل كل هذه الكارثة، لم يكن راضيًا تمامًا عن طيش فهد وتهوره ومشاغباته بين الحين والآخر. والآن؟ الأمر ازداد سوءًا!
ابنه فُصل من الجامعة، سمعته أصبحت على المحك، والمشاكل تنهال عليه كالمطر…
كان فهد في قلب العاصفة، وأبو فهد وسط نار لا يدري كيف يُطفئها.. لم يكن فهد من النوع الذي يرضخ بسهولة. ورغم كل الضغوط التي أحاطت به، أصر على الاستمرار في عمله، مقتنعًا بأن كشف فساد أبي مشاري وإنقاذ ضحاياه أهم من أي شيء آخر.
ولكن الأمر لم يكن يقتصر على إنقاذ الضحايا فقط، بل بدأ فهد بلعبة أخرى أكثر جرأة وخطورة…
كان يتعمد استفزاز أبي مشاري شخصيًا، ليشعره بأنه قادر على التسلل والعبث بممتلكاته متى شاء! في إحدى المرات، تسلل إلى مكتبه الفخم، وسرق منه صندوقًا خشبيًا ثمينًا، يحتوي على سبائك ذهبية صغيرة، ترك مكانه ورقة كُتب عليها بخط واضح:
– “مفقوداتكم في أيدٍ أمينة” (مصحوبة بضحكة ساخرة).
لم يكن ذلك الحادث الوحيد، فقد تكرر الأمر أكثر من مرة… أحيانًا كان يقتحم مستودعاته ويترك رسالة تهكمية مكتوبة على جدار، وأحيانًا أخرى يتسلل إلى جناحه الخاص في المنزل، فقط ليترك تسجيلًا صوتيًا يحتوي على ضحكاته المستفزة قبل أن يغادر دون أن يسرق شيئًا، وكأنه يقول له:
– “أنا هنا، وأستطيع الوصول إليك متى أشاء”.
هذا الاستفزاز المتكرر لم يكن مجرد عبث، بل كان رسالة واضحة من فهد إلى أبي مشاري بأنه لن يكون في مأمن أبدًا، وأن نفوذه وسلطته لا يستطيعان حمايته من عدو يعرف كيف يختبئ في الظل.
وصل الأمر بأبي مشاري إلى مرحلة الجنون، صار يتعامل مع فهد كهاجس لا ينام، وكأن شبحًا يلاحقه أينما ذهب. وبعد عدة محاولات يائسة لتعزيز أمنه دون جدوى، قرر أخيرًا أن يضع حدًا لهذا الكابوس بنفسه… نصب له فخًا محكمًا، هدفه الوحيد هو الإيقاع بهذا الشبح الذي حول حياته إلى جحيم، وإنهاء هذه اللعبة إلى الأبد.
وصلت إلى فهد معلومة عن وجود ضحية جديدة، لم يكن ليتجاهل الأمر، ولكنه لم يدرك أبدًا أنه هذه المرة لم يكن المنقذ… بل كان هو الفريسة!
كانت الضحية الجديدة مجرد طُعم نُصب بإحكام للإيقاع به، فبعد تكرار عملياته الناجحة، أدرك أبو مشاري أن الطريقة الوحيدة للإمساك به هي استدراجه بنفس الطريقة التي كان يستخدمها لإنقاذ الآخرين.
رغم أن والدته شعرت بعدم الارتياح، وطلبت منه التريث هذه المرة، إلا أن عناده كان أقوى، واندفع لتنفيذ خطته دون أن يدرك أنه يدخل في فخ محكم، سيدفع ثمنه غاليًا.
راقبه رجال أبي مشاري عن كثب، وحين تحرك لإنقاذ الضحية الوهمية، كان الفخ قد اكتمل تمامًا… لم يكن هناك ضحية حقيقية، بل كان هناك كمين ينتظره.
لم يمنحوه فرصة للهروب هذه المرة… تم القبض عليه بالجرم المشهود.
وهنا، لم يضيع أبو مشاري الفرصة، بل سارع بتكليف محاميه ليضمن إنزال أشد عقوبة ممكنة على فهد. لم يكتفِ بذلك، بل استخدم معارفه ونفوذه للضغط على الجهات المعنية، ليتم التعامل مع فهد وكأنه مجرم محترف.
وكانت النتيجة كارثية:
حُكم على فهد بالسجن عشر سنوات! خرج من المحكمة وهو شخص مشوّه السمعة، مطرود من جامعته، ومستقبله أصبح مجهولًا بالكامل.
أمه لم تجف دموعها منذ يوم الحكم، تحترق على حال ابنها، لم تكن دموع أم فهد حزنًا على أن ابنها خاض هذه المعركة، بل كانت دموعًا على الظلم الذي تعرض له. كانت تعرف أن فهد لم يكن مجرّد شاب متهور، بل كان يحارب طاغية لا يتردد في سحق كل من يقف في طريقه. لم تكن تندم على نضاله، بل كانت تتمنى لو أنها كانت قادرة على حمايته من هذا المصير.
أما والده، فكان غاضبًا… ليس على فهد وحده، بل على نفسه أيضًا. شعر بالخيبة، بالحزن، وبالعجز.
وهكذا، سقط فهد، ليس لأنه كان مجرمًا… بل لأنه كان يحاول مواجهة مجرمٍ أكبر.