فيض السلام وهندسة القلوب في وصايا الإمام الرضا (عليه السلام)

أحمد الطويل
مقدمة:
هناك كلمات لا تُكتب بالحبر، بل تُسجَّل في الوعي الإنساني كنبضٍ خالد. ورسالة الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) إلى عبد العظيم الحسني واحدة من تلك الكلمات التي لا تنطفئ. ليست نصًّا يروى للتبرك فقط، بل هي خارطة روحية واجتماعية تصلح لكل زمان، من زمن الإمام حتى عصرنا هذا.
هذه الرسالة ليست خطابًا عابرًا، بل مشروع بناء للإنسان والمجتمع، يبدأ من سلام القلب وينتهي بثبات الولاية. فيها من العمق ما يكفي ليغيّر مسار حياة فرد، وفيها من الشمول ما يجعلها دستور أمة. وكل جملة منها تحمل قوة التأسيس: تأسيس القلوب على الصفاء، والعقول على اليقظة، والعلاقات على المودة.
وبما أنّنا على مقربة من ذكرى استشهاد الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، فقد ارتأينا أن نسلّط الضوء على وصيته الخالدة لعبد العظيم الحسني، كما وردت في كتاب الاختصاص للشيخ المفيد، ص241، لما تحمله من مضامين سامية تصلح أن تكون منهاج حياة.
البداية بالسلام: مفتاح القلوب قبل العقول
«يا عبد العظيم، أبلغ على أوليائي السلام».
هكذا يفتتح الإمام رسالته، وكأنّه يقول: لا فائدة من أي مشروع إصلاحي إن لم يبدأ من مناخ السلام. السلام ليس مجرد تحية، بل هو إعلان ولاء وطمأنينة، وهو أول جسر بين القلوب. في فكر الإمام، السلام هو البيئة التي تنمو فيها الأخوة، والبوابة التي يمر منها النصح والتقويم.
لا تجعلوا للشيطان عليكم سبيلًا: المعركة الحقيقية في الداخل
«أن لا يجعلوا للشيطان على أنفسهم سبيلًا».
الإمام يوجّه الأنظار إلى أن العدو الأخطر لا يأتي من الخارج، بل من الداخل إذا تُرك بلا حراسة. الشيطان يدخل من شقوق الغفلة، من الحسد، من الغرور، ومن الخصومات التي تحرق الأخوة. هذه الوصية هي دعوة لحراسة القلب كما يُحرس الحصن، لأن سقوط الداخل يفتح كل الأبواب.
الصدق والأمانة: عمودا البناء الإنساني
«ومرهم بالصدق في الحديث وأداء الأمانة».
بهذه الكلمات يضع الإمام معيار الاستقامة: أن يكون القول صادقًا، والفعل أمينًا. الصدق ليس مجرد عدم الكذب، بل وضوح الموقف ونقاء النية. والأمانة ليست فقط ما يوضع في اليد، بل كل مسؤولية أو عهد أو كلمة. بهذه القيم، يبنى الفرد وتقوم الأمم.
ترك الجدال فيما لا يعني: حماية الصفاء الذهني
«ومرهم بالسكون وترك الجدال فيما لا يعنيهم».
الإمام هنا يصف داءً قديمًا لا يزال يصيب المجتمعات: الجدل العقيم. الصمت في غير موضع الجدال ليس ضعفًا، بل حكمة تحفظ الوقت والجهد. فالمؤمن لا يبدد طاقته في نقاشات لا تزيده إلا تشتتًا، بل يختار معاركه بعناية، ويجعل لسانه خادمًا للحق لا أداة للخصام.
إقبال بعضهم على بعض: صناعة المودة وتحصين الوحدة
«وإقبال بعضهم على بعض والمزاورة، فإن ذلك قربة إليّ».
الإمام لا يكتفي بمنع الخلاف، بل يبني البديل الإيجابي: اللقاء، المودة، المشاركة في الأفراح والأحزان. المزاورة هنا ليست مجرد عادة اجتماعية، بل عبادة تقرّب إلى الإمام. الوحدة لا تُصان بالصمت فقط، بل بالفعل الذي يوثق الروابط.
التحذير من تمزيق الصف: جريمة تهزّ العرش
«ولا يشغلوا أنفسهم بتمزيق بعضهم بعضًا…».
لهجته هنا حاسمة، لأنه يعرف أن التمزق الداخلي هو أخطر ما يمكن أن يصيب المجتمع المؤمن. بل يكشف أنه عاهد الله أن يعجّل بعذاب من يؤذي وليًا من أوليائه أو يسخطه. هذه ليست قضية شخصية، بل مسألة مصيرية تمس صميم الولاء لله.
قيمة الإنسان في قلبه السليم
«إلا من أشرك بالله أو آذى وليًا من أوليائي أو أضمر له سوءًا… نزع روح الإيمان من قلبه».
في الختام، يضع الإمام المعيار النهائي: القلب. فالقيمة الحقيقية للإنسان ليست في لسانه أو مظهره، بل في صفاء قلبه من الشرك، ومن الأذى والحقد على أولياء الله. إنه درس قاطع بأن الدين يبدأ من الداخل، وأن الفساد الباطني يلغي كل مظاهر التدين.
حركة وصيرورة الإنسان
إن رسالة الإمام الرضا (عليه السلام) لعبد العظيم الحسني ليست وصية جامدة، بل هي دعوة إلى حركة دائمة في باطن الإنسان وظاهره. فالصدق في الحديث وأداء الأمانة، وترك الجدال العقيم، والتواصل الإيجابي مع المؤمنين كلها ليست تعليمات لحظية، بل مسارات تربي في الإنسان قابلية النمو الروحي والفكري المستمر.
الصيرورة التي يرسمها الإمام هنا هي صيرورة قلبية أولًا؛ تبدأ من الداخل، من سلام القلب وخلوه من الحقد، ومن تنقية النية تجاه أولياء الله، لتنعكس بعدها على السلوك الخارجي. فالإنسان في نظر الإمام ليس ثابتًا على حال، بل إمّا أن يسير نحو النور أو ينحدر نحو الظلام، والوصية جاءت لتكون البوصلة في هذا المسار.
الرحيل لا يطفئ النور بل يخلده
رحيل الإمام الرضا (عليه السلام) لم يكن إخمادًا لصوته، بل كان بداية لتألق رسالته في وجدان الأمة. لقد حاولت الجهات المناوئة أن تُسكت هذا النور، لكن كلماته ظلّت حيّة، تنتقل من جيل إلى جيل، لأن مصدرها كان اتصالًا بالله، لا ظرفًا تاريخيًا عابرًا.
وصيته لعبد العظيم الحسني ليست أثرًا من الماضي، بل هي وصية حاضرة في كل زمن، تُذكّر المؤمن أن سلامة القلب، وحفظ المودة، واجتناب إيذاء أولياء الله، هي شروط البقاء في ولاية أهل البيت. وهكذا، فإن رحيل الجسد لم يُنهِ المسيرة، بل جعل النور خالدًا، يزداد لمعانًا كلما تعاقبت العصور.
الخلاصة:
رسالة تصنع الإنسان والمجتمع.
رسالة الإمام الرضا (عليه السلام) لعبد العظيم الحسني ليست مجرد وصية لجيل مضى، بل هي خريطة زمنية عابرة للقرون، تصلح اليوم كما صلحت بالأمس.
إنها تبدأ من السلام، لأن المجتمع الذي لا يعرف السلام لا يعرف الإصلاح. ثم تأتي اليقظة ضد الشيطان، لأن سقوط الداخل أخطر من هجوم الخارج. بعدها، يضع الإمام الصدق والأمانة كأساس لكل بناء، فهما الحبل الذي يربط الأرض بالسماء.
ثم يوجّه إلى ترك الجدل العقيم، ليحرر العقول من النزاعات التي لا طائل منها، ويدعو إلى إقبال القلوب على بعضها بالمودة والمزاورة، لأن الحب الحقيقي فعلٌ، لا شعار. ويحذّر من تمزيق الصف، لأنه خيانة لله ولرسوله ولأوليائه. وأخيرًا، يحسم الأمر بأن القلب السليم هو جواز عبور الإنسان إلى ولاية أهل البيت ورضوان الله.
هذه الرسالة هي دستور هندسة الروح: تزرع السلام، تحرس النفس من الشيطان، تبني بالصدق والأمانة، تنظف العقل من الجدل الفارغ، تغذي الوحدة بالمودة، وتحمي الصف من الانقسام، ثم تجعل القلب مركز التقييم الإلهي.
ولو جعلنا هذه الوصايا منهج حياتنا، لصرنا مجتمعًا عصيًا على الفتن، ومحصنًا ضد الانهيار، وقادرًا على أن يكون صورة حيّة من مدرسة أهل البيت.
اللهم يا من جعلت كلمات علي بن موسى الرضا مصابيح للقلوب، اجعلنا من العاملين بوصاياه، الحافظين لسلامنا الداخلي، المبتعدين عن مواضع الشيطان، الصادقين الأمناء، الباذلين المودة، المحافظين على صفنا، والنقِيّين في قلوبنا، حتى نلقاك وأنت راضٍ عنا.