قلوب تمشي قبلنا

عماد آل عبيدان
لم أمشِ وحدي في طريق المشّاية من النجف إلى كربلاء؛ كنتُ أمضي على ظهر قلوبٍ سبقتني، تُمهّد لي الدرب قبل أن تطأه قدماي. قلوبٌ تعرف الطريق أكثر مما تعرف نفسها، وتعيش لأجل هذه اللحظة، كأن حياتها قبلها كانت تمهيدًا واحدًا لهذا الامتحان العظيم.
كل عام، تعود الخدمة الحسينية بأربعين الإمام الحسين عليه السلام كمدرسة حيّة لا تشبه أي منظومة بشرية أخرى. تتوزّع المواكب على امتداد المسافة، أعمدة الطريق تحدّد الإيقاع، ووجوه الخدّام تصنع المعنى. لافتاتٌ صغيرة فوق خيامٍ كبيرة، وراءها مصانع حبٍّ تعمل بلا توقّف:
مطابخ تفور بالقيمة النجفية والتشريبة والفلافل والكباب العراقي، وما لذّ وطاب من ألوان الكرم، محطات ماء بارد تروي العطاشى وتوزّع على امتداد الطريق، قاعات نوم جماعية، نقاط شحن للهواتف، مغاسل، حلاقون متطوّعون، وعيادات ميدانية تعالج أي عارض قبل أن يتحوّل إلى عائق.
في الطريق، ترى شابًا يركض وهو يوزّع التمر على مُسنّة تعبت، وآخر يرشّ الماء في قيظ النهار فيتحوّل وجهه إلى قناعٍ من العرق والابتسامة، وثالثًا ينحني بين الأرجل ليعيد لطفلٍ فردة حذاء سقطت منه وسط الزحام، وكأنه يعيد له قلبه. لا أحد يطلب منهم، ولا أحد ينتظر منهم، ومع ذلك يعملون وكأن بقاء المسير متوقفٌ على أكتافهم.
وترى مشاهد… ومشاهد، لا يمكنك أن تصفها كلها، ولا بهذه العجالة أن تمنحها جزءًا من حقها. مشاهد تظلّ عالقة في العين قبل القلب: أطفالٌ صغار، تتصبّب وجوههم بالعرق، يمدّون أيديهم بكأس ماء أكبر من كفّهم، أو يركضون حاملين أطباق العصير، أو قطع الأرز بالدجاج، أو قدور الحساء يوزّعونها مع آبائهم، أو يقفون في صفٍّ طويل يقدّمون المناديل والابتسامات. من الذي فعل بهم هذا؟ من الذي علّمهم أن الخدمة شرف، وأن التعب لأجل زائر الحسين فرحٌ لا يُشبه أي فرح؟
إنه الحسين… الحسين الذي جعل من أصغر قلبٍ فيهم خادمًا أكبر من سنواته، ومن أبسط حركةٍ لديهم درسًا عميقًا في العطاء.
هذه القلوب، كبارًا وصغارًا، لا تُرى على الشاشات إلا عابرًا، ولكنها على الأرض تصنع الفرق: تنزع الحصى من منتصف المسار، تمهّد الحفر بألواح الخشب، تسند العاجز، وترافق الضائع حتى يجد رفاقه. بعضهم لا يُكمل المشي إلى ضريح أبي عبدالله، بل يعود من منتصف الطريق ليبدأ مع فوجٍ جديد أو مضيف آخر، يخدم فيه بقلبٍ وفرحةٍ وشعور لا يوصف، وكأن سعادتهم أن يصل غيرهم قبلهم، فتصلهم البركة والثواب والدعاء.
هي خدمةٌ لا يحدّها زمن الأربعين، لكنها تتكثّف فيه حتى تصبح لوحة متحركة من المروءة والإيمان. من يظن أن الأمر مجرّد طعام وشراب، لم يرَ تفاصيل الضيافة: ماءٌ مُراقَب، تعليمات بالنظافة، قفازات في المطابخ، مغاسل مطهّرة، فرق إسعاف متنقّلة، ولافتات تذكّر بغسل اليدين وشرب الماء النظيف. إنها تفاصيل صغيرة تحفظ صحة ملايين الزائرين، وتضمن أن يكتمل المسير بلا عثرةٍ تعكّر وجه الزيارة.
وأنت تمشي، تدرك أن هذا النظام الهائل لا تديره شركات ولا وزارات وحدها، بل قلوب؛ بيوت فتحت أبوابها، جامعات أرسلت طلابها، جمعيات نصبت خيامها، وأحياء بأكملها أعادت اختراع نفسها لتحتضن الموج البشري بعين الحسين وقلبٍ يتجه لسفينته بخدمة زائريه.
وحين تصل، وتهمس بسلامك عند الضريح الشريف، ستدرك أن بينك وبين الحسين، كانت هناك قلوب تمشي قبلك… تحفر لك خطاك في الطين بين ذرات غبار المشاية، وتغسلها بالنية قبل الماء، ثم تختفي في الظلّ، تاركةً لك المجد وحدك.
هؤلاء هم أبطال الطريق، صغارًا وكبارًا، لا يسألون عن أسمائهم، ولا ينتظرون صورة… لأن قلوبهم سبقتهم، ومكانها الحقيقي ليس في الكاميرا، بل في ذاكرة الطريق نفسه.
ولعل أجمل ما في الأمر… أنك حين تعود من الأربعين، ستكتشف أن هذه القلوب ما زالت تمشي أمامك، حتى في حياتك اليومية، تذكّرك أن من ذاق لذة الخدمة في درب الحسين، لن يعرف طريقًا آخر إلا على أثرها.