الصج يبقى والتصنّف جهالة عبدالوهاب العبادي أنموذجًا

ياسر بوصالح
يُعدّ المثل الشعبي الخليجي «الصج يبقى والتصنّف جهالة» من الأمثال المتداولة في منطقة الخليج، وهو مقتبس من بيت شعري للشاعر الكبير محمد بن لعبون رحمه الله، أمير شعراء النبط، الذي قال:
الصج يبقى والتصنّف جهالة
والجد ما لانت مطاويه بتفال
هذا المثل يقرر أن الصدق هو الأصل الذي يبقى، أما الكذب والتزييف فمصيره الزوال. ف«الصج يبقى» تعني أن الصدق يدوم ويبقى أثره، فهو أصلٌ ثابت لا يتغير، ويُثمر في الدنيا والآخرة. أما «التصنّف جهالة»، فالتصنّف هنا يُراد به التزييف أو التظاهر أو الكذب المتصنّع، وهو من الجهل، لأن صاحبه يظن أنه يُحسن، لكنه في الحقيقة يُضلّ. ولعل ابن لعبون قد استلهم هذا المعنى من قوله تعالى ﴿فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض﴾ [1] .
ولا غرابة أن يخرج هذا الإبداع من شاعر نشأ في بيئةٍ غنية بالعلم والأدب، فقد نهل من مكتبة والده المؤرخ حمد بن لعبون رحمه الله، وتشرّب من التراث والشعر ما جعله يُجيد المزج بين الحكمة والبلاغة. وابن لعبون، بالمناسبة، سعودي الأصل، عراقي المقام، كويتي المدفن؛ ثلاث محطات نسجت خيوط تجربته الشعرية، وخلّدت أثره في الذاكرة النبطية.
ما دعاني إلى الاستشهاد بهذا المثل، هو رحيل أيقونة الأحساء، الفلاح المكافح عبدالوهاب العبادي، الذي امتاز بعدة خصال جعلته أنموذجًا حيًا للصدق والبساطة. فقد كان صادقًا في وعظه، والكلام الصادق يحمل في طياته طاقة خفية، كالكهرباء، يخرج من القلب فيصل إلى القلب مباشرة، أما ما يخرج من اللسان فلا يتجاوز الآذان. وكما أنشد الشيخ علي الشرقي الخاقاني:
ما قِيمَةَ الألْفَاظِ إنْ لَمْ تَنْبَعِثْ
عَنْ صِدْقِ مُعْتَقَدٍ وَلَوْعَةِ أَكْبَدِ؟
فَالْقَلْبُ يَنْطِقُ لَا اللِّسَانُ، وَذَاكَ مِنْ
سُنَنِ الْإِصَابَةِ فِي الْخَطِيبِ الْجَيِدِ
وكانت صفاته أقرب إلى ما وصف به أمير المؤمنين المتقين، كما قال: «قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة، وأجسادهم نحيفة، وحاجاتهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة.» [2] كما امتاز بعفوية الطرح، غير متكلف، ولهجته الأحسائية الجميلة كانت جسرًا إلى القلوب، لا كأولئك الذين يُمطّطون اللهجة في محاولة لإضحاك الثكالى في خدورهن. هل يُعقل أن يُنسب هؤلاء إلى أحساءٍ أنجبت ابن المقرب العيوني وجاسم الصحيّح؟
وكان عبدالوهاب العبادي يتحدث عن الزراعة في الأحساء بصدقٍ نادر، بروحيةٍ تدل على كرم العطاء ونقاء السريرة، بينما الآخرون، كل شيء لديهم أقرب إلى سرّ، كأنهم يخفونه كما تُخفى خلطة الكنتاكي أو تركيبة البيبسي كولا، وكأن في الإفصاح عنه تهديدًا لامتيازهم الزائف.
وكم أبهجني التفاعل الواسع مع رحيله، من الخليج برمته إلى العراق لا سيما من النائبة البحرينية باسمة عبدالكريم المبارك [3]، والإعلامي الكويتي القدير فيصل الحمراني «أبو طلال» [4]، وحالة جميلة من التسامح والترحم والدعاء له بالمغفرة والدرجات الرفيعة في الفردوس الأعلى.
لذلك، فإن العين تتجه إلى زميله الفلاح الأحسائي القدير مسلم البراهيم، ليُكمل هذه المسيرة المباركة بروح الصدق والبساطة ذاتها. وكم تتملكني الغبطة حين أرى أحد كبار المعمّرين من مدينة الزلفي [5] يزور ابن وطنه في الأحساء؛ مشهدٌ يفيض بالتعايش والانفتاح، ويُجسّد معنى الأخوّة بين أبناء الوطن الواحد.
وأختم، مستلهمًا من المثل الشامي: «يا رايح كتر ملايح»، فكم من بصمة بيضاء خلفناها، يستذكرنا الناس بها حين نغيب. رحم الله عبدالوهاب العبادي، فقد كان من أولئك الذين يُثبتون أن الصج يبقى، وأن التصنف لا يدوم.
الهوامش:
[1] سورة الرعد، الآية 17
2 – نهج البلاغة – خطب الإمام علي – ج 2 – الصفحة 161
[3] https://www.instagram.com/p/DNOAyFysuT7
[4] https://x.com/al7mrany/status/1954076211971280995
[5] https://www.tiktok.com/@haider.597/video/7492154741221231879?_r=1