أقلام

رحلة القلوب قبل الأقدام ما الحكاية؟

أحمد الطويل

مقدمة:

على امتداد الأفق، يلوح خط داكن يتحرك ببطء اقتربت أكثر، فإذا هو بحر من البشر، أمواج من الرجال والنساء، الشيوخ والأطفال، وجوه أنهكها السفر ولكن تشع منها طاقة لا توصف. الأقدام متعبة، ولكن العيون لامعة، والقلوب تخفق كأنها تعرف أن كل خطوة تقترب بها من الحسين، هي خطوة نحو النور. على جانبي الطريق، تمتد خيم ومواكب تفيض بكرم لا يُحد، وأيدٍ ممدودة بكأس ماء، أو رغيف خبز، أو ابتسامة تقول: “تفضل، هذا طريق الحسين”.

في العشرين من صفر، تتحول طرقات العراق إلى أنهار بشرية هادرة، تحمل قلوبًا قبل أن تحمل أقدامًا، تتجه جميعها نحو كربلاء حيث يرقد سبط رسول الله ﷺ، الإمام الحسين بن علي. مشهد لا يشبه أي حشد على وجه الأرض، ملايين الرجال والنساء، الشيوخ والأطفال، من شتى الألوان والأعراق واللغات، تجمعهم غاية واحدة أن يصلوا إلى الضريح المقدس، ليجددوا العهد مع الحق والعدل، ويهمسوا في صمت الروح: “لبّيك يا حسين”.

الحسين منارة الأحرار

لم يكن الحسين عليه السلام شخصية تاريخية عابرة، بل كان صرخة حق في وجه الظلم، وامتدادًا لرسالة جده محمد ﷺ في قيم الرحمة والعدالة. اختار المواجهة في عام 61هـ وهو يعلم أن طريقه مفروش بالدم والشهادة، لأنه كان يرى أن بقاء الأمة على صراط الحق أغلى من بقائه حيًّا.

لذلك، فإن زيارته ليست تكريمًا لشخصه فقط، بل وفاء لقيمه التي تخص كل إنسان يرفض الظلم مهما كان معتقده.

عاشوراء البداية التي لم تنتهِ

عاشوراء ليست يومًا للحزن فقط، بل يوم لإحياء الموقف الذي وقف فيه الحسين بوجه الانحراف. مواساة السبايا جزء من هذا الإحياء، فهي تذكير بما عانته نساء آل البيت من الأسر والمهانة، لتبقى المأساة حية في الضمير، لا كمشهد دموي، بل كقصة إنسانية عن الصبر والثبات.

الأربعون يومًا معنى يتجاوز الزمن

زيارة الأربعين تأتي بعد أربعين يومًا من عاشوراء، والرقم أربعون له رمزية روحية عميقة في التراث الإنساني والإسلامي، فهو زمن اكتمال الحزن وتجديد العهد. وقد بكت السماء والأرض والشمس على الحسين أربعين صباحًا، كما ورد في الأحاديث.

في هذا اليوم تحديدًا، وصل الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري إلى كربلاء ليكون أول زائر للقبر الشريف، وهناك التقى بركب السبايا العائد من الشام، في مشهد أصبح حجر الأساس لهذه الزيارة الخالدة.

من يستقبل الزوار؟

الروايات تذكر أن أربعة آلاف ملك، يتقدمهم ملك اسمه منصور، يستقبلون الزائرين، يشيّعونهم، ويزورون مرضاهم، ويستغفرون لهم بعد وفاتهم. كما أن سبعين ألف ملك يصلون عند القبر يوميًّا ويدعون للزوار. وعلى الأرض، ترى الاستقبال بأجمل صوره في مواكب الخدمة المنتشرة على طول الطريق، تقدم الطعام والشراب والمأوى مجانًا، وكأن الجميع عائلة واحدة.

فضل الزيارة وفوائدها

ورد عن رسول الله ﷺ قوله: “من أتاني زائرًا كنت شفيعه يوم القيامة”، كما قال: “من أتى الحسين زائرًا بعد موته فله الجنة”. زيارة الحسين تثمر آثارًا روحية وأخلاقية عظيمة، فهي تشحذ الإيمان، وتربط القلب بمبادئ التضحية، وتغرس في النفس حب المظلوم وكراهية الظالم. وهي أيضًا درس عملي في الأخوة الإنسانية، حيث يلتقي الزوار من كل مكان دون فوارق، ويتسابقون في خدمة بعضهم بعضًا، لتتحول الرحلة إلى تدريب حي على العطاء والإيثار.

الخلاصة:

زيارة الأربعين ليست حدثًا عابرًا، بل هي نبض التاريخ وهو يتجدد في القلوب. تبدأ الحكاية من كربلاء، حيث ارتفع الحسين عليه السلام قنديلًا للحق في وجه الظلم، وتستمر عبر عاشوراء التي حفظت للأمة معنى الصبر والثبات، ثم تبلغ ذروتها بعد أربعين يومًا حين التقى أول الزائرين بركب السبايا عند القبر الشريف، في مشهد أرسى جذور هذه الزيارة الخالدة.

على الطريق، تصحبك الملائكة وتستقبلك المواكب، تتسابق الأيدي لتقديم الماء والطعام والمأوى، فتكتشف أن هذا المسير ليس مجرد عبور للأقدام، بل عبور للأرواح نحو مدرسة الحسين. هنا تتعلم الإيثار، وتتنفس الأخوة، وتستحضر التضحية، حتى يصبح قلبك هو الزائر قبل جسدك.

إنها رحلة تذيب الفوارق، وتجمع الملايين على وعد واحد: أن يبقى الحق حيًّا، وأن يبقى اسم الحسين منارة تهدي السائرين مهما تغيّر الزمان.

اللهم ارزقنا السير على نهج الحسين، وثبت قلوبنا على حب الحق ونصرة المظلوم، ووفقنا لزيارة قبره في الدنيا، وارزقنا شفاعته في الآخرة، واجمعنا به وبأحبابه تحت لواء جده المصطفى، في جنات الخلد والرضوان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى