متطلبات تطوير الخطاب الديني

أمير بوخمسين
في زمنٍ تتسارع فيه التحولات وتتشابك فيه الأسئلة، لم يعُد الخطاب الديني الحالي قادرًا على الاكتفاء بالتكرار أو استدعاء الفتاوى القديمة لمجابهة قضايا الإنسان المعاصر. لم يعُد كافيًا أن نرفع شعار الدين صالح لكل زمان ومكان فحسب، دون أن نقدّم فهماً حيًّا ومستنيرًا لهذا الدين يلامس هموم الإنسان، ويُضيء له الطريق نحو الرحمة والكرامة والمعنى. وعجز الخطاب الديني في توصيل مفاهيم الشريعة ، لا يعني بالضرورة عدم صلاحية الدين لكل زمان ومكان ، قدر ما يعني أن صاحب الخطاب الديني لم يفهم تلك الصلاحية بعد ولم يمزجها مع روح العصر بما تقتضيه تلك التعاليم الإسلامية دون ينتقص ذاك من حرمتها وقدسيتها.
فتطوير الخطاب الديني لا يعني المساس بجوهر الدين، بل هو محاولة صادقة لإعادة تقديمه بروحٍ جديدة، وعقلٍ مفتوح، يستوعب متغيرات الحياة، ويحترم ثوابت القيم، وينحاز للإنسان قبل أي شيء. فالخطاب الذي لا يحرّك الوعي، ولا يوقظ الضمير، ولا يُلهِم العقل، ليس خطابًا دينيًا، بل تكرارٌ أجوفًا لا يُثمر ولا يُهدي. وقد يبدو مملًا لدى الجيل الحالي الذي يرفض القديم مهما كانت حقيقته ويميل للتجديد وفقًا لعصره.
خطوات التطوير تبدأ بالانتقال من التلقين إلى الوعي، ومن الحفظ إلى الفهم، ومن الطاعة العمياء إلى التدبّر والتأمل والسؤال. الدين لم يكن يومًا أداةً لإيقاف التفكير، بل كان نداءً للعقل في كل صفحة من صفحاته. ثم تأتي أولوية القيم على المظاهر. فكم من خطابٍ دينيٍّ ينشغل بتفاصيل اللباس أو شكل اللحية، ويغفل قضايا العدل والكرامة، كما يحتاج الخطاب إلى لغة قريبة من الناس، بسيطة في تعبيرها، ولكنها عميقة في معناها، لغة تنزل من المنبر إلى الشارع، من التنظير إلى الحياة، من التعالي إلى التواضع. نحتاج إلى خطابٍ يَفهم الإنسان قبل أن يُفتيه.
وحتى يكون الخطاب متجددًا، لا بد أن يتصالح مع العقل والعلم، لا أن يصطفّ ضدهما. فالعلم ليس تهديدًا للإيمان، بل هو امتدادٌ له. والدين لا يُخيفه النور، بل الظلمة. وفي عالمٍ يموج بالتنوع، نحتاج إلى خطابٍ يُدير الاختلاف لا يُلغيه، يرحّب بالحوار لا يَخنقه، ويُدرك أن الهداية لا تُفرض، وأن القلوب لا تُفتح بالقوة.
باختصار، إنّ تطوير الخطاب الديني ليس مهمة رجال الدين وحدهم، بل هو مسؤولية الجميع: المثقفين، والمربين، والمفكرين، والإعلاميين، وكل من يطمح لعالمٍ أكثر عدلًا وإنسانية. إن إصلاح الخطاب الديني يتطلب تعاونًا مشتركًا بين جميع هذه الجهات لتحقيق نتائج فعالة. ويحتاج إلى معالجة من عدة جوانب، ولعل الإشارة إلى بعض المواضيع كعناوين مقترحة تحتاج للمعالجة كالتالي:
1. التفسير والتأويل:
• ضرورة تحديث التفسيرات لتعكس القيم الإنسانية المعاصرة.
• الابتعاد عن التأويلات المتشددة التي تساهم في التطرف.
2. التربية الدينية:
• التركيز على التربية الأخلاقية والإنسانية في المناهج الدراسية.
• تعزيز قيم التسامح والقبول.
3. دور الدين في المجتمع:
• إعادة النظر في كيفية تفاعل الدين مع القضايا الاجتماعية والسياسية.
• تعزيز دور الدين في تحقيق العدالة الاجتماعية.
4. مواجهة التطرف:
• تطوير إستراتيجيات فعالة لمواجهة الفكر المتطرف.
• تعزيز الحوار بين الأديان والثقافات.
5. إشراك الشباب:
• إنشاء منصات للشباب للتعبير عن آرائهم ومخاوفهم في القضايا الدينية.
• تشجيع التفكير النقدي والاستقلالية في التفكير.
أما عن كيفية إصلاح الخطاب الديني من خلال المؤسسات الدينية، فلابد من اتباع الآليات المقترحة التالية:
1. تطوير المناهج التعليمية:
• تحديث المناهج الدراسية لتشمل قيم التسامح، والاعتدال، والتفكير النقدي.
• إدخال مواضيع تتعلق بالحقوق الإنسانية، والمواطنة، والعدالة الاجتماعية.
2. تدريب الأئمة والدعاة:
• تنظيم دورات تدريبية للأئمة والدعاة لتعزيز مهاراتهم في الخطاب المعتدل.
• تشجيعهم على استخدام أساليب معاصرة في التواصل مع الشباب.
3. إصدار الفتاوى المعتدلة:
• إصدار فتاوى تتماشى مع قيم التسامح والقبول.
• توضيح المواقف الدينية من القضايا المعاصرة بشكل يتماشى مع القيم الإنسانية.
4. تعزيز الحوار بين الأديان:
• تنظيم فعاليات ومؤتمرات تجمع بين ممثلين عن أديان وثقافات مختلفة لتعزيز الفهم المتبادل.
• تشجيع النقاشات التي تركز على القواسم المشتركة.
5. استخدام وسائل الإعلام:
• انشاء منصات إعلامية لنشر الخطاب الديني المعتدل، مثل البرامج الإذاعية والتلفزيونية والمواقع الإلكترونية.
• استخدام وسائل التواصل الاجتماعي للوصول إلى جمهور أوسع، خاصة الشباب.
6. المشاركة المجتمعية:
• القيام بمبادرات مجتمعية تعزز من التعاون بين الأديان والثقافات.
• دعم المشاريع الاجتماعية التي تعزز من العدالة والمساواة.
7. مراقبة الخطاب الديني:
• إنشاء آليات لمراقبة الخطاب الديني في المساجد والمراكز الثقافية لضمان عدم انتشار الفكر المتطرف.
• تقديم الدعم للأفراد الذين يتعرضون لفكر متطرف.
8. التفاعل مع القضايا الراهنة:
• تناول القضايا المعاصرة مثل حقوق المرأة، وحقوق الأقليات، والتغير المناخي من منظور ديني.
• تقديم رؤى دينية تعزز من الحلول السلمية لتلك القضايا.
من خلال هذه الوسائل، يمكن للمؤسسات الدينية أن تلعب دورًا محوريًا في إصلاح الخطاب الديني وتعزيز قيم السلام والتسامح.
فالخطاب الديني إما أن يكون جسرًا للرحمة والفهم والنور، أو أن يتحوّل ، إن تُرك على حاله ، إلى جدارٍ يعزل الناس عن جوهر الدين، وعن الحياة ذاتها.