طريق لا يعرف النهاية

عماد آل عبيدان
رغم حرارة الشمس اللاهبة وقد اكتملت في أفق الشوق، كان الطريق يعجّ بالخطى والأنفاس. أصوات المواكب تمتزج برائحة الخبز الطازج والقهوة والشاي، وأصابع الأطفال تلوّح للقادمين من بعيد. هنا رجل يمد لك كأس ماء وهو يبتسم كأنه يعرفك منذ زمن، وهناك شاب يصر على أن تأخذ قطعة حلوى “لتقوى على المسير”. وبين هذه الوجوه المتعبة المشرقة، تشعر أن الزحام ما كان زحام أجساد، بقدر ما هو زحام قلوب تتسابق في الخدمة.
الأربعين ليس رقمًا في تقويم الحزن، ولا محطة زمنية تُغلق بها صفحة عاشوراء؛ إنه نبض يمدد عمر نهج الحسين عليه السلام في وجدان الأرض والسماء. هو امتحان علني لنبض الكون: هل ما زال الحسين حيًّا فينا؟ هل ما زال صوته يتردد بين النجوم ويجري في شرايين القلوب، ليوقظ فيها أسئلة الحق والعدل؟
منذ أن خطا أول زائر على تراب كربلاء في ذكرى الأربعين، لم يكن يقطع المسافة إلى الضريح فحسب، لكنه كان يختبر المسافة بينه وبين ذاته. الطريق، بما فيه من غبار ودموع وتأمل، وأكواب ماء تتناوب عليها أيدٍ مختلفة في الجنس واللون والعرق، يتحول إلى مختبر إنساني؛ إما أن تخرج منه بروح أنقى، أو تعود منه محمّلًا بأسئلة أشد من العطش. وأحيانًا، يكفي أن تبتسم لوجهٍ مجهول يمد لك رغيفًا أو قطعة حلوى، لتشعر وكأنكما صديقان منذ الطفولة ولم تلتقيا إلا هنا.
وفي منتصف الطريق، يوقفك صوت خادم موكب خمسيني، وجهه متورد من البخار المتصاعد من القدر الكبير:
– “هلا بيهم، تفضل خذ من خيرات أبو السجاد… تفضل عليّ يا زائر.”
أبتسم له وأقول:
– “تسلم، مثابين، أجر وعافية.”
يهز رأسه ببشاشة وهو يضع الرز في الصحن:
– “أبد، هذا شرفنا… إحنا نرتاح إذا شفناكم تاكلون وتشربون وتواصلون هالشعيرة.”
وتكتشف أن هذه الجملة البسيطة، بقدر ما هي عابرة، تحمل فلسفة الأربعين كلها؛ خدمة بلا شرط، ومحبة بلا حدود.
أما أثره على الكون، فربما لا يُدوَّن في كتب الفيزياء، لكننا نراه في لغة الأرض حين تهتز من وقع أقدام الملايين، وفي سماء كربلاء التي تتحوّل إلى مظلة من الدعاء والنداء: «لبيك يا حسين». هناك حركة غير مرئية، كأن الكواكب نفسها تميل قليلًا لتراقب هذا السيل البشري، وربما تهمس للنجوم: “انظروا… هكذا يبدو الحب حين يمشي على الأرض.”
وعلى الإنسان، بات الأربعين في أيامنا هذه مرآة كبرى. ترى فيها مجتمعك بكل طبقاته وأطيافه وقد تجرّد من كثير من الأقنعة. الغني يقدّم طعامه للمحتاج بلا بطاقة تعريف، والفقير يشارك آخر ما يملك كأنه ملك، والطبيب والعامل والمهندس والعالم يخدمون كتفًا إلى كتف تحت راية الحسين. حتى المزاح على الطريق، والنكات الخفيفة بين خيمة وأخرى، لها دور في تليين صلابة التعب. في هذا العام مثلًا، كتب أحد أصحاب المواكب على لافتته: “القهوة هنا تُعيد الروح… والابتسامة قهوة الحسين يا زائر!”، فيما رفع آخر لافتة صغيرة كتب عليها: “تعال كل قبل لا يبرد رز أبو السجاد… عساكم ما تعبتوا.”
وفي زاوية أخرى، كان صبي صغير يركض خلف الزائرين ليعطيهم كأس ماء ويقول بجدية: “ترى ما أمشي عنكم إلا إذا تشربونه كله!”، فيبتسم الجمع بأكمله. هذه اللمحات، بقدر ما تبدو بسيطة، تحفظ للروح طاقتها في مشوار طويل، وتعلّمنا أن الفرح الصادق ليس خيانة للحزن، إنما هو استراحة محارب في معركة الوعي.
وعند مدخل كربلاء، حيث تتقاطع خطى القادمين مع دموع المودّعين، يقف رجل مسنّ يلوّح بعصاه الخشبية، وصوته يختلط بزحام العابرين:
– “في أمان الله يا زوّار… لا تنسونا من الدعاء عند ضريح أبو عبدالله وأخوه ابو الفضل العباس.”
إلى جانبه طفل يحمل سلة تمر، يناول المارّين حبّات ويقول:
— “تمر أبو السجاد … بركة الحسين لا تخليها.”
هناك، يختلط الحنين بالفخر، وتتسع المسافة بين القلب والدمعة، وكأن الوداع جزء من المسير، لا يقل حرارة عن الوصول.
حدث الأربعين، أحدث أثرًا تاريخيًا عُلق على جدار الذاكرة وطاقة متجددة. تراه حين تعود من المسير وقد تغيّر ترتيب أولوياتك، حين تتحوّل كلمة «خدمة» إلى ممارسة يومية لا شعارًا عابرًا وينتهي، عندها تدرك أن المسافات لا تُقاس بالكيلومترات إنما بالنيات. ورغم ازدياد انشغال المجتمع بالمظاهر في أيامنا هذه، يأتي الأربعين ليذكّرك أن الجوهر هو ما يبقى، وأن الحسين يقيم في تفاصيل حياتك إذا أردت له مقامًا.
وهكذا، من بين الغبار وأصوات المواكب وروائح القهوة واستكانات الشاي في الصباح الباكر، ومن بين النداءات الحانية: «تفضل يا زائر… هلا بيكم… هلا بزوار أبو السجاد»، يفاجئك الحسين بسؤال قديم جديد: ماذا ستأخذ من الطريق إلى حياتك اليومية؟ عندها تعرف أن الأربعين ما كان رحلة تنتهي عند وصولك للضريح المطهر، لكنه بداية طريق أطول… طريقك أنت.
وربما، وأنت تعود، تشعر أن خطاك لم تعد لك وحدك، وأن شيئًا من تراب كربلاء التصق بروحك إلى الأبد، حتى إذا مشيت في شوارع بلدتك، ظل قلبك يخطو على طريق الحسين… طريق لا يعرف النهاية.