أقلام

لعبة الفهد – الحلقة السابعة عشر: وانكشف المستور

إبراهيم الرمضان

بعد أن أتم فهد قصته، أشاح أبو فهد بوجهه، وكأن موجة من الندم اجتاحته، لم يكن بحاجة إلى قول أي شيء، فقد كان واضحًا أن ذكريات الماضي تعيده إلى لحظات كان يتمنى لو تصرّف فيها بشكل مختلف. صحيح أن فهد كان متهورًا وطائشًا في بعض الأحيان، ولكن لو أنه فقط احتواه بطريقة صحيحة… ربما كان بإمكانه تجنيب ابنه الكثير مما مرّ به.

في المقابل، شعرت ناهد بثقل تلك القصة، وكأنها نهاية فصل مؤلم من حياة فهد. لم تكن تعرف الكثير عن ماضيه، ولكن الآن، أصبحت تفهمه أكثر من أي وقت مضى.

تنهد فهد أخيرًا، ثم استقام في جلسته قبل أن يلتفت إلى ناهد قائلًا بابتسامة خفيفة:

– هلّا قدمتِ لوالدي مشروبًا ساخنًا؟ كان على وشك اقتحام منطقتك المحظورة ليعد قهوته بنفسه، ولكني جعلته يتراجع في اللحظة الأخيرة حفاظًا على حياته.

رفعت ناهد حاجبها باستهجان مصطنع، ثم ردت بسرعة:

– قرار حكيم لو كان يتعلق بكم! فالغزو العسكري لمطبخي لن يمرّ دون خسائر.

ثم نظرت إلى أبي فهد بلطف، وأضافت:

– أما والدك، فهو يستحق من يخدمه، سأحضر له القهوة مع بعض الحلويات التي أعددتها، ليجمع بين الدفء والمذاق الطيب.

اتجهت ناهد إلى مطبخها المحصّن، تاركةً أبا فهد يغرق أكثر في تأملاته. ثم رمق ابنه بنظرة ذات مغزى، ما جعل فهد يرفع حاجبه متسائلًا:

– ما بالك تنظر إليّ هكذا يا أبي؟ هل بدر مني شيء خاطئ؟

تنهد أبو فهد وهو يهز رأسه قائلًا بنبرة تحمل شيئًا من التوبيخ:

– أراك تملي عليها أوامرك كما لو أنك سلطان المكان، تتعامل معها كما لو كان هناك شارب فوق فمها! ألم تستوعب بعد أنها أنثى ويتطلب منك أن تكون أكثر لطفًا معها؟ ألم ترى أنثى في حياتك من قبل؟!

ضحك فهد، ورد بسخرية خفيفة:

– أمي لم تعاملك على أنها أنثى يا أبي.

امتقع وجه أبي فهد للحظة، لم يستطع الرد في البداية. صحيح، كانت زوجته مختلفة عن بقية النساء، وفهد لم يعرف نساءً غيرها وصاحباتها، ولكنه رغم ذلك عقد حاجبيه ورد بنبرة غاضبة:

– على الأقل، أنا أعرف أنها أنثى، وأعاملها على هذا الأساس! أما أنت… فجرب أن تكون إنسانًا ودودًا لمرة واحدة في حياتك. (ثم رفع صوته مستنكرًا) هل ستحتاج إلى دروس خصوصية في الغزل؟!

بدأ فهد بالتنحنح باضطراب، وعيناه تتحركان بتوتر وكأنه يريد لفت انتباه والده إلى شيء خلفه. لم يفهم أبو فهد ماذا يحدث، حتى لمح نظرات ابنه، فالتفت… ليجد ناهد تقف خلفه، تمسك بصينية عليها القهوة والحلوى، بينما وجهها بدا محمرًا بشدة!

تجمد أبو فهد في مكانه، بينما مدت ناهد الصينية إليه، قائلة بصوت متردد، وهي تحاول التظاهر بالتماسك:

– قهوتك وحلوتك يا عمي…

أخذ أبو فهد فنجانه على عجل، محاولًا التظاهر بأنه لم يكن في موقف محرج قبل لحظات. ارتشف القهوة ببطء، ثم قال دون أن يرفع عينيه:

– شكرًا يا ابنتي… يبدو أنكِ وصلتِ في “التوقيت المناسب” تمامًا.

ولكن ناهد لم ترد، فقط وضعت الصينية على الطاولة وانسحبت بهدوء إلى المطبخ، وكأنها تحاول الهروب قبل أن تزداد الأمور إحراجًا.

أما فهد، فقد غطى فمه بيده، وهو يراقب والده بعيون ممتلئة بالضحك، ولكنه حاول التماسك قدر المستطاع. رفع أبو فهد حاجبه نحوه بحدة:

– ابتلع ضحكتك، وإلا سأجعل هذه القهوة تجد طريقها إلى أنفك بدلًا من فمك!!

فهد، الذي لم يكن قادرًا على المقاومة، أطلق ضحكة قصيرة، ثم قال وهو يهز رأسه:

– لا عليك، سأدعك تستمتع بقهوتك وحلوتك في سلام.

ثم أكمل وهو يغمغم ضاحكًا بصوت مسموع قليلًا:

– دروس خصوصية في الغزل… هكذا إذن؟!

رفع أبو فهد عينيه إليه بنظرة جانبية، ثم قال وهو يرتشف قهوته بهدوء مصطنع:

– على الأقل، تعلم شيئًا من هذه الدروس، فقد تحتاجها يومًا ما!

في هذه اللحظة، عاد خالد أخيرًا بالكيس الذي انتظره فهد بفارغ الصبر، ووضعه أمامه على الطاولة. وضع أبو فهد فنجان قهوته جانبًا، ثم نهض ليُلقي نظرة على محتوى الكيس، وما إن فتحه حتى اتسعت عيناه بدهشة!

كانت أمامه كميات ضخمة من رزم فئة الـ 100… أكوام من الأموال المصفوفة بعناية! رفع إحدى الرزم بين يديه، وأخذ يقلبها قبل أن ينظر إلى فهد بتوجس، ثم قال بنبرة شبه ساخرة، ولكنها تحمل قلقًا حقيقيًا:

– أي بنك اختلستَ كل هذا منه؟! لم نتفق على سرقة البنوك يا بني!

ضحك فهد، ولكنه أسرع في طمأنته وهو يلوّح بيده:

– اهدأ يا أبي، لا حاجة لاستدعاء الأمن! هذه ليست أموالًا حقيقية… كلها مزيفة.

قطّب أبو فهد حاجبيه وهو يعيد النظر إلى الأوراق النقدية، ثم قال متشككًا:

– مزيفة؟! ولكن طباعتها متقنة بشكل مخيف… من أين حصلت عليها؟

أجابه فهد وهو يشير إلى الكيس:

– وجدتها في أحد الأجنحة الفاخرة بفندق أبي مشاري أثناء إحدى تسللاتي السابقة، ولكن لم أتمكن من معرفة الغرض منها وقتها… والآن، أعتقد أن الوقت قد حان لمعرفة مصدرها الحقيقي وما الذي كان يخطط له باستخدامها؟

طلب فهد من خالد أن يستدعي رفاقه من رجال الحراسات الأمنية الذين كانوا يعملون في الفندق، وعندما اجتمعوا، بدأ يسألهم مباشرة:

– هل لاحظتم دخول أية حقائب أو صناديق إلى الفندق قد تحتوي على مبالغ مالية؟

تبادل الرجال النظرات للحظات قبل أن يجيب أحدهم:

– لا شيء من هذا القبيل يدخل الفندق بسهولة، بل على العكس تمامًا…

تدخل آخر ليكمل:

– كنا نلاحظ أن هناك أشخاصًا يخرجون بحقائب وصناديق، وليس العكس. لم نكن نعرف محتواها بالضبط، ربما أموال، وربما شيء آخر، لكن المؤكد أن أي شيء من هذا النوع لم يكن يدخل إلى الفندق إطلاقًا.

توقف فهد عند هذه المعلومة، وضاق جبينه بتفكير عميق… إذا كانت الأموال لا تدخل، بل تخرج فقط، فماذا يعني ذلك؟ وهل يمكن أن يكون الفندق واجهة لشيء أكبر مما كان يتصور؟

بدأ الشك يتسلل إلى ذهنه أكثر، وأدرك أن هناك حلقة مفقودة في هذه القصة، حلقة قد تغيّر كل شيء..

في هذه اللحظة، انتبه فهد إلى ناهد وهي تمر بالقرب منهم، كانت تحاول التظاهر بعدم الاهتمام، متجنبة التواصل البصري بعد الموقف المحرج السابق. ولكن فهد لم يدعها تفلت بسهولة، إذ ناداها بلطف:

– ناهد، تعالي للحظة، أريد رأيك في شيء.

توقفت للحظة، ثم ابتسمت بخجل قبل أن تقترب منهم. أشار لها فهد لتجلس، ثم أعاد عليها نفس السؤال الذي طرحه على رجال الحراسات الأمنية، وأخبرها بإجاباتهم.

– هل سبق أن لفت انتباهك أي حقائب أو صناديق تُنقل داخل الفندق؟

ناهد عقدت حاجبيها قليلًا وهي تحاول استرجاع ذكرياتها، ثم أومأت برأسها قائلة:

– نعم، كنت أرى هذه الحقائب بشكل متكرر بالقرب من الممر الضيق المؤدي إلى القبو. لم أكن متأكدة مما إذا كانت تأتي من هناك أو تُنقل إليه، ولكن الشيء الوحيد الذي أذكره جيدًا…

توقفت للحظة، وكأنها تتأكد من صحة ذاكرتها، ثم أكملت:

– أن أبا مشاري كان معهم! ومع نفس طاقم الصيانة الذي لا يتحرك إلا بإذنه المباشر!

اتسعت عينا فهد قليلًا، ونظر إلى أبي فهد، الذي بدوره بدا وكأنه يربط بين هذه المعلومة والمخططات التي اطلع عليها سابقًا.

– هذا غريب جدًا… – قال فهد وهو يضع يده على ذقنه – إذا كانت هذه الحقائب لا تدخل الفندق، بل تخرج فقط، فلماذا كانت تمر عبر القبو؟

أبو فهد تنهد وهو يضع المخطط أمامه مجددًا:

– القبو كان يفترض أن يكون مصممًا ليحتوي على مولدات كهربائية وخزان ماء للإطفاء… ولكن كل شيء يشير إلى أن الهدف من تصميمه لم يكن ذلك أبدًا.

ثم رفع عينيه إليه وهو يرد بصوت خافت ولكنه حازم:

– بالنظر إلى تركيبته، أنظمة العزل، وتصميمه غير التقليدي… يبدو أن القبو لم يكن مجرد مساحة خدمية، بل كان منشأة ذات غرض مختلف تمامًا.

خالد رفع حاجبه مستغربًا:

– انتظروا لحظة، إذن القبو لم يُستخدم أبدًا لما كان مخططًا له… إذن ماذا كان بالضبط؟

نظر إليه فهد بحدة وهو يرد بصوت خافت:

– ربما… كان مصنعًا!

ساد الصمت للحظات، قبل أن ينظر الجميع إلى بعضهم البعض، وكأنهم بدأوا يدركون أن القضية التي بين أيديهم أكبر مما كانوا يعتقدون!!!

فهد، وهو يتفحص المخططات بعناية، التفت إلى والده وسأله بجدية:

– أبي، هل من المحتمل أن يكون هناك شيء موجود أسفل القبو، ولكنه غير مدرج في الخرائط التي لدينا؟ يبدو أن هذه المخططات وُضعت فقط للاعتماد الرسمي، وربما تم إخفاء تفاصيل معينة عمدًا.

أبو فهد عقد حاجبيه وهو يعيد النظر في المخططات، ثم أجاب متأملًا:

– هذا احتمال وارد… في بعض المشاريع، يتم تنفيذ أجزاء غير مدرجة في المخططات الرسمية، ولكن من الناحية الهندسية، أي فراغ أو إنشاء تحت الأرض ينبغي أن ينعكس على الخرائط بطريقة ما، حتى لو لم يكن موضحًا بشكل صريح.

أخذ نفسًا عميقًا، ثم انتقل إلى آخر صفحة بالمخططات، حيث تُعرض المقاطع العرضية للقبو وأخفض نقطة فيه. هناك، لاحظ مساحة تبدو وكأنها امتداد أعمق من المستوى المعروف للقبو، ولكنها غير مشروحة أو مفصلة في التصميم.

مرر إصبعه على المخطط، مشيرًا إلى تلك المساحة الغامضة، ثم قال:

– انظر هنا… هذه المنطقة تظهر فرقًا في الطبقات الأرضية، وكأن هناك تجويفًا أعمق، ولكنه لا ينعكس كعنصر إنشائي واضح في المخططات. هذا غير طبيعي! لو كان مجرد فرق في منسوب الأرض، لتم توضيحه بشكل مختلف… ولكن بهذا الشكل، قد يعني أن هناك فراغًا مخفيًا لم يتم توثيقه رسميًا.

نظر فهد إلى المخطط، محدقًا في المساحة الغامضة التي لم تنعكس في الأوراق الهندسية بوضوح، ثم التفت إلى والده قائلًا:

– إذن، هناك احتمال كبير أن هذا القبو يخفي ما هو أعمق! قد يكون هناك مستوى آخر لم يُدرج رسميًا في الخرائط.

أبو فهد عقد ذراعيه أمام صدره، وهو يفكر بتمعن:

– هذا ممكن، ولكن يجب أن يكون هنالك ممر خفي أو نظام تشغيل مختلف يسمح بالوصول إليه… أي تعديل غير موثق في التصميم سيعتمد على أنظمة ميكانيكية أو إلكترونية قديمة، قد تكون متصلة مباشرة بأنظمة التهوية والطوارئ.

التفت أبو فهد إلى المخططات مرة أخرى، ثم تمتم بصوت خافت، كأنه يحدّث نفسه:

– إن كان هناك شيء أعمق… فقد يكون هذا هو سر سقوط أبو مشاري!

نظر فهد إلى أبي فهد ثم إلى خالد ورجال الأمن، وأعلن بجدية:

– حسنًا، سننفذ الخطة بنفس الأسلوب الذي طُبّق سابقًا… فريق التسلل سيكون مكونًا مني، وأبي، وأحد الحراس المختصين، بينما سيعمل البقية على تكرار عملية خفض الأكسجين كما فعلنا سابقًا.

أبو فهد، بنبرة حازمة:

– ليس هناك داعٍ لأن تتسلل معنا يا بني، من الأفضل أن تبقى بعيدًا تحسبًا لأي طارئ. لقد سبق لي التسلل مع أحد الحراس، وأصبحنا نعرف المكان جيدًا، ولا نحتاج إلا إلى وسيلة تواصل مباشرة معكم لإبلاغكم بما نراه.

تردد فهد للحظة، ولكنه في النهاية أومأ بالموافقة، وإن كان القلق لا يزال واضحًا على ملامحه.

توقف أبو فهد للحظة وهو يتفكر في أمر آخر، ثم استدرك:

– ولكن… الهواتف المحمولة لن تنفع في مثل هذه الأماكن، الإشارة ستكون ضعيفة أو معدومة. هل لديكم أجهزة لاسلكية يمكن استخدامها في أعماق الأرض؟

أحد رجال الحراسات الأمنية أومأ برأسه مؤكّدًا:

– نعم، نستخدم أجهزة لاسلكية بترددات خاصة تعمل في البيئات المعزولة، يمكننا توفير واحدة لك، وأخرى تكون مع فهد للتواصل المباشر.

أبو فهد أومأ برأسه قائلًا:

– ممتاز، إذن لنضبط كل التفاصيل قبل أن نتحرك.

بدأت عملية التحضير للمغامرة الجديدة…

تم تجهيز الأجهزة اللاسلكية التي تحدثوا عنها، بالإضافة إلى كاميرا رقمية لتوثيق أي شيء مهم قد يصادفونه في القبو.

استلم فهد جهاز اللاسلكي من يد أحد الحراس، قلبه بين يديه بتمعن، ثم قال بابتسامة جانبية:

– حسنًا، لنتأكد فقط من أن هذه الأجهزة لا تتوقف عن العمل في اللحظة الحرجة… فأنا لا أريد أن يتحول أبي إلى شبح جديد في هذا القبو اللعين!

ضحك بعض الحاضرين بخفة، بينما هزّ أبو فهد رأسه مستنكرًا:

– يكفيني أنني أتعامل مع ابني المزعج فوق الأرض، لا أريد أن أواجهه كروح هائمة في القبو أيضًا!

فهد، بابتسامة ماكرة:

– يا أبي، عندما تظن أنك تحولت إلى هامة مخيفة كما تعتقد، سأجرب أن أقرصك هكذا لنتأكد من أنك لست شبحًا.

لم يمنح والده فرصة للرد، إذ تسلل بسرعة وأمسك بأسفل رقبته ليقرصه فجأة، مما جعل أبو فهد ينتفض غاضبًا، ملوحًا بيده:

– أراك تماديت كثيرًا… وكأن الكلفة قد زالت بيننا تمامًا!! خذوني من هنا يا رجال، أبعدوني عن هذا المجنون!!

شرعت المجموعة في تنفيذ خطتها، وسارت الأمور تمامًا كما حدث عندما تسلل أبو فهد والحارس إلى القبو لإنقاذ فهد وناهد. تم تكرار عملية خفض الأكسجين ليتسللا سريعًا إلى الداخل، وبينما شقّا طريقهما عبر الممر الضيق أسفل القبو، بدأ الجو يزداد ثِقلًا مع كل خطوة يقتربان بها.

عندما وصلا إلى نهاية الممر، لاحظ أبو فهد وجود باب فولاذي ثقيل، دون أية علامات تشير إلى ماهيته، وكأنه مُصمَّم ليبدو كجزءٍ من الجدار. أشار للحارس بالتريث، قبل أن يُخرج أداة صغيرة كان قد جلبها معه مسبقًا لهذا الغرض، وبدأ بتمريرها على الحواف بحثًا عن أي آلية فتح. بعد لحظات، عثر على لوحة مخفية، يبدو أنها تعمل ببصمة أو بكودٍ سري.

لكن الباب لم يكن محكم الإغلاق، ربما نتيجة استعجال أحدهم، أو ثقةً مفرطة بأن أحدًا لن يصل إلى هذا العمق. دفعه أبو فهد ببطء، ليصدر الباب أنينًا خافتًا قبل أن ينفتح على مصراعيه، كاشفًا عن مساحة واسعة لم يكن يتوقعها.

داخل المعمل، كان المشهد مرعبًا…

آلات طباعة ضخمة مصطفّة على امتداد القاعة، أرضية المكان مغطاة ببقايا قصاصات الورق، بعضها يحمل آثار الحبر الأسود والأحمر، والبعض الآخر يبدو كمسودات تجريبية للفئة النقدية المستهدفة.

على طاولات جانبية، كانت هناك مئات الرزم من الأوراق النقدية المكومة بعناية، كلها من فئة 100، لكن بمجرد أن ألقى عليها أبو فهد نظرة فاحصة، أدرك أنها ليست سوى نسخ مزيفة بإتقان مرعب! جودة الطباعة كانت دقيقة، حتى أن ملمس الورق يوحي بأنها حقيقية، إلا أن بعض التفاصيل الدقيقة – والتي لا تُرى إلا تحت الضوء المناسب – فضحت زيفها.

عند الزاوية البعيدة، كان هناك مكتب ضخم، فوقه مجموعة من القوالب المعدنية المنقوشة، والتي يُستخدم بعضها في الطباعة، إلى جانب عدة أجهزة صغيرة تُشبه الماسحات الضوئية، ربما لاختبار جودة الأوراق المزيفة. بالقرب منه، كانت هناك خزائن مغلقة، بعضها يحمل أرقامًا مشفرة، ربما تحتوي على مواد حساسة أخرى.

لكن أكثر ما أثار القشعريرة في المكان، كان وجود عدد من الأوراق النقدية الأصلية بجانب المزيفة، موضوعة في مغلفات شفافة، وكأنها تستخدم كنماذج معيارية لنسخها بدقة.

أدار أبو فهد نظره في المكان، ثم همس للحارس بصوت بالكاد يُسمع:

– يا إلهي… هذا ليس مجرد تزوير عادي… إنهم يصنعون عملة مزيفة بجودة تكاد تنافس الأصلية… لا عجب أن هذا القبو محاط بهذا الكم من السرية!

هنا، تبادل الرجلان نظرات سريعة، قبل أن يلتقط الحارس إحدى الرزم بين يديه، يقلبها ويتفحص تفاصيلها، ثم تمتم بصدمة:

– لو لم أكن أعلم أنها مزيفة، لأقسمت أنها حقيقية.

قاموا بتصوير كل ما شاهدوه، بدقة وحذر، ملتقطين كل زاوية وكل تفصيلة قد تكون دليلًا حاسمًا لاحقًا. لم يكن هناك مجال للخطأ، فكل لحظة يقضونها هنا تعني اقتراب الخطر أكثر.

بعد أن انتهى من التصوير، التقط أبو فهد الجهاز اللاسلكي، وضغط على الزر وهو يهمس بصوت منخفض لكنه واضح:

– هنا أبو فهد، هل تسمعوني؟

جاءه رد فهد سريعًا:

– نسمعك بوضوح يا أبي، أعطنا التفاصيل.

بدأ أبو فهد في إبلاغهم بما شاهدوه، واصفًا الأدلة التي وجدوها، والأنشطة التي تجري في هذا المكان، حتى أدق التفاصيل لم يتجاهلها، فمن يدري أي منها سيكون المفتاح للإطاحة بأبي مشاري؟ أو أي ثغرة قانونية يمكن استغلالها لاحقًا؟

بعد أن أنهى مكالمته، أطلق زفرة ثقيلة، وهو يشعر بأنهم اقتربوا خطوة إضافية من كشف المستور. نظر إلى الحارس الذي كان يقف بجانبه متأهبًا، ثم ابتلع ريقه وقال بحزم، كمن يستعد للمرحلة التالية:

– حان وقت الخروج… ولكن بهدوء، يجب أن لا نترك أي أثر لوجودنا هنا!

لكن قبل أن يتحركا، سمعا صوتًا مكتومًا يأتي من إحدى الزوايا… لم يكونا وحدهما في هذا المكان!

توقفا في مكانهما، يحاولان التراجع بصمت، ولكن فجأة ظهر رجلان من إحدى الزوايا، التقى نظرهما بنظرة أبو فهد والحارس، وتبدل التوتر إلى تأهب، لم يكن هناك مجال للهرب.

وفجأة، جاء صوت مألوف، حادٌ ومتسلط، يتردد في الفراغ الثقيل للقبو:

– ما الذي يجري هنا؟

دفع أبو فهد الحارس بحدة وهمس له:

– اهرب! أحدنا على الأقل يجب أن ينجو.

لم يحتج الحارس إلى مزيد من الإلحاح، فانطلق مسرعًا بينما وقف أبو فهد في مواجهة الرجلين، متصلبًا في مكانه، مستعدًا للمواجهة. حاول الرجلان اعتراض الحارس، ولكن فراره السريع جعلهما يكتفيان بالعودة إلى هدفهما الأساسي: أبو فهد.

أمسك أحدهما بتلابيبه بقوة، واقترب الآخر حتى كاد أن يلتصق به وهو يهمس بصوت غاضب، كمن يهدده ويستجدي تعاونه في آنٍ واحد:

– أنت وحدك هنا، هل فهمت؟ لا تدعه يعرف أن هناك شخصًا هرب… سنقضي عليك لو علم بذلك!

كتم أبو فهد ابتسامته الساخرة، يا لهم من حمقى! لقد قدموا له معروفًا دون أن يدركوا ذلك. فكلما ظل فرار الحارس سرًا، زادت فرصهم في تنفيذ الخطة دون أن يُكشف أمرهم، تبادل للمنافع دون الحاجة إلى تفاوض!

وبينما كان الرجلان يقودانه نحو مصدر الصوت، خطا القادم خطواته الأخيرة، لتتكشف ملامحه تحت الأضواء الخافتة. كان هو… أبو مشاري، بشحمه ولحمه!

كان الألم يعتصر جسده من الضرب والتنكيل اللذين تلقاهما فور وقوعه في الأسر. لم يكتفوا باعتقاله فقط، بل حرصوا على “إكرامه” كما أمرهم سيدهم أبو مشاري، ضربًا وركلًا حتى فقد الإحساس بمعظم جسده، قبل أن يجروه لتقديمه إلى “طويل العمر” شخصيًا في قصره.

ولكن وسط كل هذا، كان هناك خطأ فادح ارتكبه رجال أبي مشاري… كانوا أغبياء بما يكفي لعدم اتخاذ الاحترازات التي اعتادت مجموعة فهد تطبيقها، فلم يكلفوا أنفسهم عناء تعصيب عينيه أثناء نقله! وهكذا، ورغم الألم، تمكّن أبو فهد من ملاحظة كل التفاصيل التي مر بها أثناء اقتياده… وبينما كان ينزف بصمت، كانت عيناه تمسحان المكان بعناية، حتى وقعتا على شيء مثير للاهتمام: ممر جانبي، شبه مخفي وسط الجدران المتآكلة.

قد يكون هذا هو المخرج السري الذي لم يكن أحد يعلم عنه… سوى الآن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى