سوق الوجوه

عماد آل عبيدان
إنّ البضاعة التي تُعرض على الأرصفة وحدها ما كانت هي ما يُشترى ويُباع فقط، إنها القلوب والعقول والأخلاق أيضًا تدخل سوقًا مفتوحًا، لا تُغلق أبوابه ليلًا ولا نهارًا. ترى رجلًا يتباهى بوجه أنيق، وآخر يرفع بطاقة نسب طويل، وثالث يلمّع جيبه المترع بالمال كأنه تصريح دخول إلى قلوب الناس، ولكنك حين تقترب أكثر، تكتشف أن معظم هذه البضائع ليست إلا مغلّفة، تغريك من الخارج وتُصيبك بالخيبة حين تفتحها.
المسألة أبسط وأعمق مما يظنّون؛ ما يَبقى للإنسان ليس جمالًا يذبل، ولا هندامًا يتسخ، ولا شجرة عائلة يابس نصفها، ولا مالًا يُستهلك في لذّة عابرة. ما يبقى هو ما لا يُباع ولا يُشترى: خُلُقٌ يرفعك حين تهوي، وصدقٌ يضيء عتمتك، وإنسانيّة تُبقي لك موطئ قدم في قلوب الناس حتى بعد غيابك.
المفارقة أنّ كثيرًا من الناس يركضون خلف ما يَفنى ويتركون ما يَبقى، كأنهم في سوقٍ يشتري فيه البعضُ السرابَ بأغلى الأثمان. ترى أحدهم يكدّس شهاداته كأنها صكوك غفران، وآخر يلتقط صورًا ليصدّر حياة مثالية لا يعيشها أصلًا، وثالث يقترض مالًا لا يحتاجه ليُثبت وجاهة لا تليق به. كأنّ الجميع يخاف أن يخرج من السوق صفر اليدين، بينما الحقيقة أن الخروج بخُلُق صادق أثمن من ألف صفقة رابحة.
ولأنّ السوق يعرض كل شيء، فهو يكشف أيضًا عن الخاسرين. الخاسر الحقيقي ليس من أفلس حسابه، إنما من أفلس وجدانه. كم من غنيّ يبيت على وسادة حرير ولكن قلبه مخروم من الداخل، وكم من جميل الوجه يثير الإعجاب ساعة ثم يتركك تلعن غرورَه ما حييت، وكم من متعلمٍ تملأ شهاداته الجدار ولكن حديثه يكشف خواءه في أول جملة. هؤلاء قد يكونون رابحين في أعين أنفسهم، لكنهم خاسرون في عين الحقيقة.
في المقابل، هناك من لا يُعلّق لافتة كبيرة ولا يبيع كلامًا منمّقًا، ولكنه يترك في قلبك أثرًا لا يُمحى. رجل بسيط يمدّ لك يده بصدق، رجل يحسن الظنّ بك في أول لقاء، صديق لا يُكثِر من الكلام ولكنه يزرع الطمأنينة في حضورك. هؤلاء ربحوا الصفقة الكبرى دون أن يصرخوا في وجه الدنيا أنهم “رابحون”.
العجيب أن هذا السوق لا يعلن عن رابحيه وخاسريه فورًا، هو يترك الوقت ليكشف الفواتير. قد ترى إنسانًا يلمع كالذهب فإذا به بعد حين يصدأ كالحديد، وترى آخر يظنه الناس عاديًا، فإذا به يسطع في لحظة اختبار كجوهرة نادرة. الزمن هنا هو المقياس، والامتحان الحقيقي ليس في وفرة المال ولا في طول النسب، إنما في المواقف الصغيرة التي تُعرّي المعادن: كلمة في موضعها، صبر في محنته، عطاء بلا مَنّ.
نحن جميعًا زوّار عابرون لهذا السوق، لا أحد يملك فيه دكانًا دائمًا. ما نضعه اليوم في الميزان هو ما يُسجَّل غدًا في صحائفنا. وإن كان لا بدّ من سلعة نعرضها، فلتكن إنسانيتنا قبل صورنا، وصدقنا قبل كلماتنا، وكرامتنا قبل جيوبنا. لأن كل ما عدا ذلك لا يزيد عن ورق مقطوع، يلمع لحظة في يد المشتري ثم يُرمى في أقرب حاوية.
هذا السوق ليس مجرد استعارة، إنه الواقع الذي نعيشه يوميًا. في مؤسساتنا، في منازلنا، في مجالسنا، وحتى في فضاءات التواصل التي تكشف أكثر مما تستر. هناك من لا يملك إلا وجهًا مبتسمًا ولكنه يغنيك عن ألف لفتة باردة، وهناك من يوزّع النفاق كما يُوزّع البائع الخردة في آخر اليوم.
إذن، السوق مفتوح للجميع، ولكن الربح ليس للجميع. الربح لأولئك الذين فهموا أن أعظم بضاعة يحملها الإنسان هي قلبه وخلقه، وأن الخسارة الكبرى ليست أن تخرج بلا مال، وإنما أن تخرج بلا أثر.
ففي النهاية، حين يطوى السوق وتُطفأ الأضواء، يبقى سؤال واحد يلاحقك: ماذا ربحت من رحلتك هنا؟
“الدنيا سوق ربح فيها قوم وخسر آخرون” الإمام الهادي “ع”، مستدرك الوسائل ج ٩-ص١٤٦