أقلام

إنكار الموت لإرنست بيكر

منصور عبد الله آل يحيى

ينطلق بيكر من مقارنة بين رؤية فرويد، الذي عدّ الغريزة الجنسية المحرّك الأساسي للسلوك الإنساني، وبين رؤية أوتو رانك الذي اعتبر رعب الموت والفناء هو الدافع الأعمق. ويميل بيكر إلى أطروحة رانك لما تملكه من قدرة على تفسير أوسع وأعمق للسلوك البشري.

يرى إرنست بيكر أن الإنسان هو الحيوان الوحيد الواعي بفنائه. وهذا الوعي يضعه في مأزق وجودي؛ فهو من جهة كائن مادي فانٍ، ومن جهة أخرى يتطلع إلى الخلود. لذا يبدو له فناؤه ضربًا من العبث، ومع ذلك فهو على يقين من نهايته. وللتغلب على هذا العبث يسعى الإنسان إلى إضفاء معنى على حياته، معنى يجعله خالداً رمزياً لا مادياً، إذ إن البقاء المادي مستحيل.

هنا يظهر سعي الإنسان إلى تجاوز محدوديته عبر صناعة بطولات على المستويين الفردي والجماعي. ولا ينحصر معنى البطولة في الجانب العسكري أو السياسي فحسب، بل يشمل مجالات الثقافة والفن والدين والعلم، وكل ما يسمو فوق المادي ويتحدى الفناء. هذه المشاريع تمنح الإنسان وهماً بالخلود، لكنها في حقيقتها استجابة نفسية لرعب الموت.

غير أن الفرد الذي يعجز عن مواجهة رعب الفناء بفاعلية قد يسلك مسارات أخرى:

فقد ينغمس في العصاب، حيث ينشئ بطولات صغيرة وهوساً بالتكرار والالتزام الصارم ببعض الحاجات اليومية. وبذلك يحاول تجاوز رعب الموت عبر تفاصيل ضيقة.

أو يتحول إلى فنان يحاول مواجهة الرعب بخلق عالم شخصي من الإبداع، حيث يصوغ الفناء في صور جمالية خاصة به.

أما الفصامي فيعجز عن بناء نظام دفاعي متماسك، فينهار عالمه الواقعي تماماً ويعيش في عالم وهمي يصنع فيه بطولاته الخاصة.

العصابي (في نظر بيكر) ليس مجرد مريض نفسي، بل إنسان يعي محدوديته وفناءه بعمق، ويعجز عن إيجاد بطولة تمنحه خلوده الرمزي. إنه مأزق البطولة المجهضة، أو الفنان الذي فشل في الإبداع.

أما الشعور بالذنب، فهو عند بيكر شعور وجودي بالأساس. إنه متجذر في الكينونة الإنسانية، ناشئ عن الصراع بين رغبة الإنسان في الخلود والبطولة، وبين حتمية الفناء والحدود. هذا الذنب ليس أخلاقياً محضاً، بل وليد وعي الإنسان بمسؤوليته الوجودية وعجزه عن الوفاء بها. إنه إذن خذلان لمشروع البطولة، وليس مجرد شعور طفولي ناجم عن الخيال. وهذا الذنب لا يظل فردياً فقط، بل هو جماعي أيضاً، إذ تشترك فيه الحضارات التي تعجز عن مواجهة الموت.

ويتقاطع بيكر هنا مع رؤية كيركغارد الذي رأى أن الإنسان محتاج إلى قفزة إيمانية غير عقلانية، تقيه من السقوط في العبث واليأس أمام الفناء. إذ لا يمكن تجاوز محدودية الإنسان إلا بالاتكاء على كيان مطلق لا محدود القدرة والمعرفة.

ويقدّم بيكر تفسيراً للانحرافات الجنسية بوصفها محاولات دفاعية ضد وعي الفناء:

المازوخية: تحويل الألم والموت إلى مصدر متعة، عبر السيطرة الواعية على الهزيمة والألم، للحد من القلق.

السادية: سعي للهيمنة على الآخرين لإخفاء هشاشة الذات المذعورة من حتمية الموت.

المثلية: محاولة التعالي على النظام الطبيعي للحياة الجنسية، والخروج عن مسارها الحيوي، كنوع من الوهم بالتحرر من المحدودية البيولوجية ومن حتمية المصير الجماعي للنوع الإنساني.

الفتشية: رفع الأشياء المادية – كالأدوات والملابس – فوق الجسد الفاني، محاولةً إنكار ضعفه وفساده.

كل هذه الانحرافات ليست سوى أقنعة دفاعية يبتكرها الإنسان في مواجهة الفناء.

ويرى بيكر أن الحضارة الحديثة، بعد أن نزعت غطاء الدين التقليدي، قد عرّت الإنسان من أنظمة الخلود الموروثة. والنتيجة كانت قلقاً وجودياً متزايداً، فراغاً، اغتراباً. وهنا يطرح التساؤل: هل يستطيع الإنسان أن يخترع أنظمة خلود جديدة، أم أنه سيظل غارقاً في العدمية؟

ويخلص بيكر إلى أن الحل لا يكمن في الهروب من رعب الموت بإنشاء بطولات وهمية أو أقنعة دفاعية، بل في مواجهته بوعي كامل. علينا أن نعيش حياة ذات معنى، مع الإقرار بأن الفناء جزء أصيل من طبيعتنا، لا عدواً ينبغي إنكاره.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى