أقلام

لعبة الفهد – الحلقة الثامنة عشر: السجن السري

إبراهيم الرمضان

وصلت الأنباء السيئة فور وصول الحارس إلى رفاقه وإبلاغهم بوقوع أبي فهد في الأسر، لقد نجحا في إتمام مهمتهما وتحقيق مبتغاه، لكن الآن أصبح الحذر ضرورة قصوى لضمان سلامة أبي فهد.

بينما كان فهد يتفحص شاشة الحاسب المحمول، بدا عليه بعض الانزعاج، رغم هدوئه الظاهر. كان يتوقع أن شيئًا كهذا قد يحدث، لكن مواجهته الآن باتت أمرًا واقعًا. في المقابل، كانت ناهد على وشك الانهيار عند سماعها بالخبر؛ فهي تعرف جيدًا ما يعنيه أن يقع أحدهم في أسر أبي مشاري، فقد رأت ذلك بأم عينيها.

لم تستطع ناهد احتمال برود فهد وهدوئه، فاتجهت نحوه بعد فترة، وقد استفزها صمته، لتعاجله بلهجة غاضبة:

– كيف يمكنك أن تبقى هادئًا هكذا وكأن شيئًا لم يحدث؟! والدك وقع في يد ذلك الوحش، وأنت تجلس هنا بلا أي رد فعل؟! هل تعتقد أن الأمور ستحل نفسها من تلقاء نفسها؟! عليك أن تتحرك، أن تفعل أي شيء، لا يمكنك أن تتركه يواجه هذا المصير وحده!

لكن فهد اكتفى بابتسامة مطمئنة، ثم أشار إليها بيده قائلاً بهدوء:

– تعالي وألقي نظرة على هذا.

اقتربت ناهد لتنظر إلى شاشة الحاسب المحمول، فتفاجأت بخريطة واضحة عليها نقطة زرقاء تتحرك ببطء. رفعت حاجبيها بدهشة، فنظر إليها فهد بنظرة واثقة، وقال:

– لقد زرعت في جسد أبي دون علمه جهاز تتبع صغير، جعلته يعتقد أنه مجرد قرصة أسفل رأسه. لم أكن مرتاحًا تمامًا بشأن هذه المهمة، وها قد أثبت حدسي أنه كان محقًا.

وفي جهة أخرى…

كان أبو فهد قد تم اقتياده إلى قصر أبي مشاري، وجهه كان مليئًا بالرضوض والبقع الزرقاء، آثار الضرب العنيف واضحة عليه. رجلان أمسكاه بقوة قبل أن يلقياه أرضًا أمام أبي مشاري، الذي كان يراقبه ببرود.

ثم غرس عصاه على ظهره وهو يتمتم بنبرة متشفية:

– تتبعت معلوماتي وعرفت أنك والد ذاك الشقي… فهد! الذي اختفى وسط النيران مع صاحبته الحمقاء!

توقف للحظة، ثم ضرب العصا على الأرض، متابعًا بسخرية:

– حاول خداعي بجعلي أظن أنه قد سافر إلى بلاد بعيدة، لكنني لم أكن يومًا أحمقًا! كنت أشعر بأنه قريب… قريب جدًا! حتى ظهر بنفسه وسط إحدى مكائده، ليدفع ثمن مغامراته! الفهد الذي كان يراوغ أصبح جرذًا محاصرًا… ولكنني أعلم أنه لم يكن وحده.

ضاقت عيناه وهو ينظر إلى أبو فهد نظرة حازمة:

– من هم أعوانه؟ تحدث قبل أن أجعلك تدفع ثمن صمْتك غاليًا!

انفتح الباب حينها ليدخل الحارس الشخصي، وبصحبته رجلان من الحراسات الأمنية. في تلك اللحظة، تمتم أبو فهد بصوت منخفض، موجهًا حديثه إلى أبي مشاري، بينما ارتسمت على شفتيه ابتسامة خبيثة:

– أعلم أن مشروعك كان سرّيًا حتى على حارسك الذي يلازمك كظلك… هل تريدني أن أرفع صوتي وأتحدث عمّا رأيته؟

رمقه أبو مشاري بنظرة نارية، وكأنه يأمره بالصمت على الفور.

عندما اقترب منه الحارس الشخصي، أمره بلهجة صارمة:

– خذ هذا المعتوه، واحبسْه في السجن السري أسفل القصر.

اتسعت عينا أبو فهد بذهول! سجن سري؟! هل وصلت الأمور إلى هذه الدرجة؟ لم يصدق ما يسمعه… يبدو أن كل منشأة لهذا الطاغية تخفي تحتها سرًّا آخر أكثر ظلامًا من سطحها! أشار الحارس الشخصي بصمت إلى الحارسين، اللذين أمسكا بأبي فهد، وسحباه عبر الباب المقابل للغرفة.

لم تمضِ أكثر من دقيقة، حتى سمع أبو مشاري صوت فتح الباب الخلفي الصغير. التفت بسرعة، ليجد الحارس الشخصي يعود إليه، يبدو وكأنه يحمل أخبارًا جديدة.

لكن أبو مشاري لم يكن مستعدًا لما سيسمعه… نظر إليه الحارس الشخصي فاغرًا فاه، وكأنه متردد في نقل الخبر، ثم قال بصوت خافت، وكأنه يخشى أن يتسبب في انفجار نووي أمامه:

– سيدي… يبدو أن زوجتك، طلبًا للنجاة، قامت بفضحك هناك… والأسوأ أنها تطالب بالطلاق!

تغير لون وجه أبي مشاري في لحظة، اشتعل الغضب في عينيه، وصاح بغضب:

– كفى حديثاً عن هذه المعتوهة! لا أريد سماع المزيد عنها!

ثم، وكأنه استوعب فجأة، حدّق في الحارس الشخصي بعينين متسعتين، وسأله ببطء:

– انتظر… كيف دخلتَ من هذا الباب بهذه السرعة؟

ارتبك الحارس الشخصي، لم يفهم ما يقصده:

– ماذا؟ دخلت الآن للتو، كما ترى!

أبو مشاري ضرب سطح مكتبه بقبضته، وصاح:

– لا تتهرب، أخبرني… ماذا كنتَ تفعل قبل دقيقة؟ ماذا طلبتُ منك؟

أجاب الحارس الشخصي بارتباك:

– لم أكن هنا قبل دقيقة، سيدي! دخلتُ للتو!

تجمد أبو مشاري في مكانه، ثم نظر إليه بحدة، وصرخ أخيرًا:

– ألم أطلب منك أن تأخذ أحدًا إلى السجن السري؟!!

اتسعت عينا الحارس الشخصي بذهول، ثم سأله بقلق:

– هل أنت بخير، سيدي؟ أي سجين تتحدث عنه؟!

وهنا… أدرك أبو مشاري الكارثة، ليصرخ بأعلى صوته:

– الحقوا بهم فورًا!!!

كان الثلاثة يركضون بأقصى سرعة عندما دوّت أجراس الإنذار في أرجاء القصر، بينما كان أبو فهد محمولًا على ظهر ذلك الرجل الطويل الذي انتحل شخصية الحارس الشخصي. ومع كل خطوة كان يركضها، كان أبو فهد يشعر وكأنه محمول على ظهر حصان سباق!

اتضح أن الرجل لم يكن سوى عامل وافد من جنسية آسيوية، ذو طولٍ قريب من الحارس الشخصي ولون بشرة مشابه، لكنه كان يمتلك قوة خارقة تجعله قادرًا على حمل جبل على ظهره!

في تلك اللحظة، رفع أحد الرجلين هاتفه، وقال بصوت لاهث:

– أنقذنا يا فهد، يبدو أننا انكشفنا!

وصلهم الرد سريعًا عبر الجهاز اللاسلكي، بنبرة مطمئنة ومشاغبة في الوقت نفسه:

– لا تقلقوا، كنتُ متوقعًا حدوث هذا… اذهبوا إلى بوابة الخروج فورًا، فقط أرسلوا لي إشعارًا عندما تصلون إليها.

وفي هذه الأثناء، كان أبو مشاري في حالة هيجان غير مسبوقة! صرخ بكل قوته:

– أغلقوا البوابة فورًا! لا تسمحوا لهم بالهروب!!

ركض الحراس في كل اتجاه، انتشروا في أنحاء القصر، بينما كان الثلاثة يقتربون من بوابة الخروج، ليجدوا أنها أُغلقت بالفعل! لكن خلفها… كان عوض بانتظارهم، يقف هناك بهدوء وكأنه لم يسمع كل هذه الفوضى.

في تلك اللحظة، أرسل خالد الإشعار لفهد، وما إن ضغط على زر الإرسال حتى حدثت المفاجأة.

خلال ثوانٍ، انفتحت البوابة تلقائيًا!

فجأة، انطلقت أصوات صفير إلكتروني في القصر، مع ظهور رسالة على شاشات المراقبة:

– “الخدمة المطلوبة قد نُفذت. مع تحيات… X-Shadow”

كان هذا الاسم كفيلًا بإثارة الرعب في قلب أبو مشاري، صرخ بعصبية وهو يلوّح بعصاه:

– أيها الأغبياء! ماذا تنتظرون؟! أوقفوهم!!!

ركض رجال الأمن إلى سياراتهم، انطلقوا بسرعتها القصوى، لكن بمجرد أن ضغطوا على دواسات البنزين… بوووم!!!

انفجرت جميع محركات السيارات في وقتٍ واحد، تزامنت مع إطلاق عشرات الألعاب النارية التي انفجرت في السماء، وكأنها تحتفل بولادة حفلة جنونية جديدة!

وقف أبو مشاري مذهولًا، يحدّق في الفوضى التي تلتهم خططه واحدةً تلو الأخرى، قبل أن يصرخ بغضب وهو يركل أحد الحراس:

– مَن أيقظ هؤلاء الشياطين من سباتهم؟!

وصل أبو فهد أخيرًا إلى المقر السري محمولًا على الأكتاف وسط احتفال وتصفيق من بقية أعضاء المجموعة، وكأنه فارس عاد منتصرًا من إحدى الحملات التصدي للجحافل المغولية. وبمجرد أن أنزلوه، استقبله فهد بابتسامة واسعة، قبل رأسه بحفاوة، ثم قال بنبرة ساخرة، وهو يربت على كتفه:

– أهلاً بعودتك يا أبي! أعتقد أنك الآن الشخص الوحيد الذي يمكنه إلقاء محاضرة عن ضيافة الأشرار… كيف كان مستوى الخدمة؟ أم أنهم ما زالوا بحاجة لدورة في حسن الاستقبال؟

ضحك أبو فهد بخفة رغم إرهاقه، بينما كانت ناهد تقف على مقربة، تنظر إليه بابتسامة امتنان، ودمعة لا تزال عالقة تحت عينيها. لاحظ أبو فهد نظرتها، فأراد أن يطمئنها، فابتسم وقال بلطف:

– لا تقلقي عليّ يا ابنتي، مررتُ بما هو أسوأ… ليس أشد مما تعرض له فهد ليلة الحريق، أليس كذلك؟

هزّت رأسها بابتسامة باهتة، بينما نظر فهد إلى والده قائلاً بجدية:

– أبي، يجب أن تستريح الآن، لقد مررت بالكثير الليلة.

لكن أبا فهد رفع يده مقاطعًا:

– قبل ذلك، هناك شيء يجب أن تعرفه… سمعتُ شيئًا من أبو مشاري، وهذا قد يغيّر كل شيء.

نظر الجميع إليه بترقب، ليكمل بصوت منخفض:

– هناك سجن سري أسفل قصره!

ذهل الموجودون بما سمعوا، فهذا آخر شيء كانوا يتوقعونه!

لم تكن المفاجأة مقتصرة على اكتشاف أن قبو الفندق كان موقعًا سريًا لطباعة الأموال المزيفة، بل اتضح أن الأمور أكثر تعقيدًا مما كانوا يتصورون… أبو مشاري يمتلك سجنًا سريًا أسفل قصره؟! ماذا يخفي هناك؟! ومن هم نزلاؤه؟!

ساد صمت ثقيل، قبل أن يقطعه أبو موسى وهو يمسح وجهه محاولًا استيعاب الموقف:

– إذن… لدينا الآن دليل قاطع على التزوير داخل القبو في الفندق، ولكن السجن؟ لا نملك سوى ما سمعه أبو فهد، لا أدلة، لا شهود، مجرد كلمات خرجت من أبو مشاري في لحظة غضب…

نظر فهد إلى والده، ثم التفت إلى المجموعة قائلاً بحزم:

– لدينا بالفعل ما يكفي للإطاحة به قانونيًا بسبب التزوير، ولكن هذا السجن في القصر؟ قد يكون فيه أشخاص محتجزون ظلمًا، وإذا كان الأمر كذلك… فهذه جريمة أخرى من العيار الثقيل!

وهنا، اتجه فهد فورًا إلى هاتفه، وبدأ بالاتصال بالنقيب مدرك، صوته كان هادئًا لكنه يحمل نبرة تحذير واضحة:

– أرسلنا لك كل الأدلة بخصوص القبو، لكن لدينا معلومة أخرى أخطر… يبدو أن لدى أبو مشاري سجنًا سريًا أسفل قصره!

ساد صمت قصير في الطرف الآخر، قبل أن يرد النقيب مدرك بنبرة متوترة:

– ماذا قلت؟!

استمر النقاش بين فهد والنقيب مدرك لفترة، قبل أن ينهي الأخير المكالمة بوعده بإعادة الاتصال فور ورود أي مستجدات من جانبه. بعد إنهاء المكالمة، التفت فهد إلى المجموعة وقال بصوت هادئ لكن حازم:

– الجميع ينصرف الآن، خذوا استراحة قصيرة حتى أستلم المستجدات من النقيب، بعدها سنقرر خطوتنا التالية.

امتثل الجميع للأمر وانصرفوا…

إلا ناهد…

بقيت متسمّرة في مكانها، تنظر إلى فهد بنظرة تحمل مزيجًا من الغضب والغليان المكبوت.

رفع فهد حاجبه مستغربًا، قبل أن يسألها:

– أراكِ لا تزالين واقفة هنا، هل هناك شيء؟

تقدمت ناهد نحوه بخطوات بطيئة، ثم قالت بحنق واضح:

– مللت من هذه الإجراءات! جمع معلومات، تسليمها لذلك النقيب، ثم الجلوس في انتظار أن يقوم هو بالباقي… كل هذا لا يشفي غليلي أبدًا! مهما وجهتم لهذا البغيض من ضربات، لا زلت أشعر أنها غير كافية. متى سأبرّ بقسمي وأدوس على أصابعه النتنة؟!! لا زلت أنتظر هذه اللحظة.

توقفت لبرهة، قبل أن تدمع عيناها وهي تكمل بصوت مرتجف لكنه لا يزال مشحونًا بالغضب:

– لا أحتمل بقاءه سالمًا، كلما تذكرت أنه وراء تلك الموجة الدامية… أنه السبب في كل ما حدث!

نظر إليها فهد بصمت للحظات، ثم اقترب منها قليلًا، وقال بنبرة أكثر هدوءًا، لكن بعينين تلمعان بشيء يشبه الوعد:

– وأنا أؤكد لكِ… سيأتي ذلك اليوم، وستدوسينه حتى تحولين جسده إلى مداس ممسوح! بعد أن يمر بحمام ساخن من الجحيم نفسه. لكن… تحلّي بالصبر، لأن كل خطوة الآن تضعنا أقرب لتحقيق ذلك!

توقفت ناهد عند كلماته، حدقت به لثوانٍ، ثم زفرت ببطء… وكأنها تحاول السيطرة على الغليان الذي في داخلها، قبل أن تومئ برأسها وتبتعد بهدوء، تلك اللحظة التي تنتظرها لم تغب عن ذهنها ولو للحظة.

بينما كانت خارجة، لاحظت خالد وهو يجلس جانبًا منهمكًا في إصلاح بعض الملابس. وقفت تتأمله للحظات، ثم قالت باستغراب:

– يبدو أنك متمرس في الخياطة، لم أرك تفعل ذلك من قبل.

رفع خالد رأسه نحوها، كأنما لم يكن يتوقع السؤال، ثم قال وهو يواصل عمله:

– نعم… تعلمت ذلك منذ فترة.

– منذ متى وأنت تقوم بإصلاح الملابس؟

تردد قليلًا قبل أن يجيب:

– حصلت على تدريب مهني في “تفصيل الملابس” خلال برنامج تأهيل وتشغيل السجناء.

رفعت حاجبيها باندهاش:

– كنت مسجونًا؟!

أومأ خالد برأسه، وقال بنبرة هادئة، تخفي وراءها بعض الحرج:

– نعم، قبل سنتين… كانت التهمة انتحال شخصية موظف بنك، حاولت الاحتيال على أحدهم كما يفعل البعض، لكنني لم أقم بأي تدابير احترازية كما يفعل المحترفون، فكانت جريمتي مكشوفة تمامًا منذ اللحظة الأولى. كنت أظن أنني أتصرف بذكاء، لكن الحقيقة أنني لم أكن أكثر من نصاب أحمق.

توقف للحظة، وكأنه يسترجع تفاصيل تلك التجربة، ثم تابع:

– على كل حال، لهذا السبب التقيت بفهد، كنا في الزنزانة نفسها لفترة.

ابتسم خالد وهو يتذكر:

– في البداية وضعوني في زنزانة غير المدخنين لأن زنانين المدخنين كانت ممتلئة… كنت وقتها مدخنًا شرهًا، فتعرضت لأعراض انسحابية شديدة، كآلام الرأس والتوتر، بالكاد كنت أتحمل.

ضحكت ناهد بسخرية:

– وأكيد فهد لم يفوّت الفرصة ليزيد الطين بلة؟!

ضحك خالد بدوره:

– بل العكس تمامًا! بدل أن يسخر مني، قرر أن “يعالجني” بأسلوبه الخاص. كان يحاول إلهائي بأساليب غريبة… ذات مرة، وجدني أشدّ شعري من شدة الصداع، جاء إلي وهو يمضغ العلكة ويقول: “أتعلم؟ الإقلاع عن التدخين يشبه الصيام، الفرق الوحيد أن الإفطار هنا يكون بعد سنوات!” ثم رمى لي علبة علكة وقال: “هذه جرعتك البديلة، امضغها وكأنها آخر سيجارة على الأرض!”. لا أنكر أنني ضحكت رغم معاناتي.

هزّت ناهد رأسها مبتسمة، وتأملت قليلاً في طريقة عمله قبل أن تقول بتعجب:

– لم أكن أتوقع أن السجون هنا توفر برامج تدريبية وتأهيلية. الصورة النمطية لدي كانت مختلفة تمامًا… كنت أظنه مثل المعتقلات المرعبة التي نراها في الأفلام!

ابتسم خالد، وكأن ملاحظتها أثارت لديه ذكريات قديمة، ثم قال:

– لا، ليس كما تظنين. السجن لم يكن كما تتجلى صورته النمطية في الأذهان؛ لم يكن مكانًا مظلمًا يعج بالسلاسل والقيود، بل بالعكس، كانت هناك جهود واضحة لتوفير بيئة إصلاحية وتأهيلية للنزلاء، مع مراعاة احتياجاتهم المختلفة.

وأردف:

– كان هناك تصنيفات مختلفة للسجناء، مثل تخصيص زنزانات خاصة لغير المدخنين، وتمكين النزلاء من مواصلة دراستهم الجامعية عبر نظام التعلم عن بعد، حيث خُصصت قاعة داخل السجن لإجراء الامتحانات تحت إشراف الجهات المختصة. بالإضافة إلى ذلك، توفرت برامج تدريبية، كتلك التي التحقتُ بها. لم يكن فهد مهتمًا بالشهادات بقدر اهتمامه بالمعرفة نفسها، لكنه كان يقول دائمًا إن مجرد وجود فرصة للدراسة في السجن يُشعره أن القيود “نسبية”، ويؤكد قناعته بأن العالم ليس سوى لعبة قواعدها وُضعت لتُخترق.

هزّت ناهد رأسها وكأنها بدأت تفهم:

– وماذا عن فهد؟ هل كان يستفيد من هذه الفرص؟

ضحك خالد بخفة:

– فهد؟ كان يرى في الأمر مجرد “تحدٍّ فكري”! لم يكن يهتم بالتحصيل الأكاديمي، لكنه كان يقرأ بنهم. كان يُسمح لنا بطلب الكتب، فهد استغل ذلك وتوغّل في عالم الفلسفة وعلم النفس… قرأ كثيرًا، لكنه لم يستخدم معرفته هذه بالطريقة التقليدية، بل أعاد تشكيلها لتبرير تصرفاته بطريقته الخاصة.

بدت ناهد تفكر في كلامه، ثم سألت:

– وكيف كان سلوكه داخل السجن؟

– طبيعي جدًا، خصوصًا بعد أن قضى سنوات طويلة فيه وتكيف مع الوضع، بالإضافة إلى زيارات أهله المستمرة التي لم تنقطع، عكس حالتي.

رمقته ناهد بنظرة مستفهمة، فقال وهو يشيح بعينيه بعيدًا:

– أهلي تبرأوا مني تمامًا… زارتني أمي مرة واحدة فقط، لتخبرني أن عقابي سيكون أشد عندما أخرج من السجن، ثم لم أرها بعدها قط. كنت أحسد فهد على والدته التي كانت تزوره باستمرار.

ساد الصمت للحظات، قبل أن يضيف بصوتٍ أخفض:

– لكنه بدأ يشعر بالقلق عندما توقفت زياراتها فجأة.

رفعت ناهد بصرها إليه بسرعة:

– ماذا حدث؟

تنهد خالد وأكمل بصوت مثقل بالأسى:

– ذات يوم، استُدعي إلى مكتب الضابط المسؤول… كان معه شخص آخر، فهمت لاحقًا أنه أخصائي اجتماعي، بالإضافة إلى رجل دين.

تنهد قبل أن يكمل:

– لم أكن أعرف وقتها، لكنني لاحظت أنهم كانوا يتحدثون معه بأسلوب متدرّج، كما لو كانوا يهيئونه لسماع خبرٍ سيّئ… ثم خرج معهم.

ينتقل المشهد إلى المستشفى، حيث ترقد أم فهد في سريرها، وقد جاءت أم موسى لزيارتها.

أم موسى، بقلق وهي تمسك بيدها:

– كيف حالكِ اليوم، عزيزتي؟ الطبيب قال إنكِ تحسّنتِ قليلًا، وهذا أمر مبشّر.

أم فهد ابتسمت ابتسامة ضعيفة، ثم نظرت إليها بعينين مثقلتين بالتعب:

– عزيزتي أم موسى، أشعر أنني لن أخرج من هنا كما دخلت… إن حدث لي شيء، أريدكِ أن تسلمي هذه الورقة إلى زوجي، أبي فهد، ولكن فقط عندما يخرج فهد من السجن… ويجد نفسه مجددًا في صراع مع أبي مشاري.

مدّت يدها بورقة مطوية بحرص، وكأنها تحاول أن تنقل ثقلها إلى يد صديقتها.

نظرت أم موسى إليها بدهشة، محاولة أن تبدد هذه السوداوية:

– لا تقولي هذا، بإذن الله ستتحسنين وتخرجين أفضل مما كنتِ عليه!

لكن نظرات أم فهد بقيت ثابتة… كانت مليئة بشيء أعمق من التعب، شيء يشبه القناعة بأن الأجل قد اقترب.

يعود المشهد إلى خالد وناهد، حيث يتابع سرد القصة:

– تحسّنت حالتها قليلًا بعد أيام، وقرر الأطباء إخراجها من المستشفى بعد أن استقرت حالتها نسبيًا، لكنها كانت لا تزال ضعيفة. عادت إلى المنزل، وأمضت بضعة أيام وسط عائلتها، لكن لم تمضِ سوى فترة قصيرة حتى أصيبت بنوبة قلبية أخرى… وهذه المرة، لم تنجُ.

شهقت ناهد بصمت، وشعرت برجفة خفيفة تسري في جسدها، قبل أن تتمتم:

– يا إلهي.

تابع خالد بصوت هادئ، وكأنه يسترجع المشهد في ذاكرته:

– لاحقًا، علمنا أنه تم استدعاؤه ليُبلَّغ بوفاة والدته إثر نوبة قلبية مفاجئة… تم السماح له بحضور الجنازة، كونه لا يُصنف كسجين خطر أمني، وبعد عودته، أقمنا له مجلس عزاء داخل السجن، وكان يتلقى بعض المكالمات من ذويه.

أخفضت ناهد رأسها، تحاول استيعاب ما سمعته:

– وكيف كان حاله؟

أطرق خالد للحظة، قبل أن يقول بصوت هادئ:

– لم يكن كأي عزاء… الجميع توقعوا أن ينهار أو يغضب أو حتى يثور، لكنه لم يفعل أيًا من ذلك… جلس هناك، صامتًا، لا يتحدث، لا يتحرك، فقط يُحدق في اللاشيء.

صمت قليلاً، وكأنه يستعيد تفاصيل تلك اللحظة، قبل أن يضيف بنبرة أكثر هدوءًا:

– في الواقع، كان فهد يشعر منذ البداية بأن هناك خطبًا ما يحيط بوالدته، وكأن شيئًا ما يوشك أن يحدث. أخبره شقيقه علي بأنها كانت تعاني من إرهاق غير معتاد، وشعور بضيق خفيف في التنفس، الأمر الذي جعله يُلح عليها مرارًا بأن تراجع الطبيب فورًا. لكنها، كعادتها، لم تأخذ الأمر على محمل الجد، معتقدة أنه مجرد “أعراض عادية” لا تستدعي القلق.

هزّ رأسه ببطء وأردف:

– لم يكن يتوقع الأسوأ، لم يكن يتخيّل أن يأتي اليوم الذي يُستدعى فيه إلى مكتب الضابط المسؤول ليسمع منه ما لم يخطر بباله قط.

ابتلعت ناهد ريقها وهي تتخيل المشهد، ثم قالت بصوت خافت:

– فقدان الأم أمر قاسٍ… حتى على شخص مثله.

نظر خالد إليها وأومأ برأسه بصمت، قبل أن يعود ليكمل إصلاح الملابس، بينما بقيت ناهد تتأمل الأرض، تفكر فيما سمعته للتو.

عاود النقيب مدرك الاتصال مجددًا بفهد، فرد عليه فهد ووضع المكالمة على وضعية المكبر الصوتي، لكن من نبرة صوته وكلماته الممهدة، شعر فهد بالإحباط قبل أن يسمع التفاصيل.

لم ينتظر أكثر ليقاطعه قائلاً بحدة:

– قطعًا هناك من أوقف أي إجراءات ضد أبو مشاري، أليس كذلك؟

تنهد النقيب مدرك، ثم أجابه بأسف:

– نعم، للأسف… من الواضح أن هناك جهة ذات نفوذ قامت بالضغط لإيقاف أي تحقيق حول القبو، رغم كل الأدلة الدامغة، بحجة أنها “مفبركة”. والأسوأ من ذلك، أنهم رفضوا حتى النظر في مسألة السجن السري تمامًا، وكأن الأمر لم يكن موجودًا أصلًا!

قبض فهد يده بغضب، ليقولها بنبرة غاضبة:

– قلناها لك… لستم نِدًّا لهم!

لكن النقيب مدرك انفعل بدوره، ليرد بصوت حاد:

– لا يوجد شخص لا أستطيع الوقوف أمامه! لكنني أريد أن أعمل وفق القانون، لا بطريقة عشوائية أو فردية! أحتاج أن يكون كل شيء تحت غطاء رسمي، رغم أن القانون نفسه أصبح يقف عائقًا في وجهي الآن.

ثم صمت للحظة قبل أن يضيف بحزم:

– لكن فهد، دعني أخبرك بشيء… أخطر من أبو مشاري، هو الشخص الذي يحميه من الظل، الشخص الذي يعرقل أي إجراء ضده. والمصيبة أنني حتى الآن… لا أعرف من هو!

تبادل الاثنان حديثًا قصيرًا بعدها، قبل أن تُنهى المكالمة. بقي فهد واقفًا للحظات، غارقًا في إحباطه، قبل أن يدير جسده، ليتفاجأ بأن ناهد كانت تقف خلفه. من الواضح أنها سمعت كل شيء… رمقته أخيرًا بنظرات ثابتة، ثم قالت:

– سمعتك مرة تقول: “القانون الذي لا يحمي الضعفاء قانون فاسد”. قد لا يعجب هذا البعض، بما فيهم النقيب مدرك، وأنا أتفهمه جيدًا، فربما يكون التعدي على القانون خطورة أمنية، لكن عندما يصبح القانون نفسه هو الخطر الأكبر، ويُستخدم أداة ضد الضعفاء، فما الفائدة من التمسك به؟

فهد، رافعًا حاجبه بخبث:

– أراهن أنكِ عازمة على أن تصبحي مجرمة خارجة على القانون!

ناهد، مستنسخة كلام النقيب مدرك لكن بعد تحريفه، قائلة بنبرة ساخرة:

– أريد أن أعمل ضد القانون… ولكن ليس بطريقة عشوائية أو فردية!

ابتسم فهد أخيرًا، بعد أن فهم تمامًا ما ترمي إليه.

بينما كان النقيب مدرك جالسًا في مكتبه، غارقًا في التفكير العميق حول تلك الخطوط المتشابكة التي تعرقل جهوده، اندفع أحد أفراد فريقه إلى الداخل مهرولًا. رمقه مدرك بنظرة متململة، متسائلًا عن الأمر، إذ لم يكن يتوقع أن هناك ما هو أسوأ مما يحدث بالفعل.

توقف الرجل ليلتقط أنفاسه، ثم قال بسرعة:

– سعادة النقيب، عليك أن تدخل مواقع التواصل الاجتماعي فورًا، هناك شيء عليك أن تراه بنفسك!

بشيء من التوجس، فتح النقيب مدرك هاتفه، وما إن وقعت عيناه على الشاشة حتى اتسعت حدقتاه في ذهول!

كل ما يخص أبو مشاري من معلومات سرية تم تسريبه! فضائح، ملفات، مستندات، مقاطع صوتية، وحتى تفاصيل قضاياه المالية السابقة والحالية، كل شيء أصبح متاحًا للعلن. لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد… كان التركيز الأكبر على ضلوعه في الموجة الدامية، مما فجّر موجة من الغضب العارم بين أهالي الضحايا، سواء في القرية أو الأحياء الأخرى!

شعر النقيب مدرك بالخيانة… كيف حدث هذا؟ من سرّب كل هذا؟! التقط هاتفه بسرعة واتصل بفهد، لكن الاتصال لم يُجَب. عبس وهو يعاود الاتصال مجددًا، لكن هذه المرة، جاءه الرد من أبو موسى.

– أبو موسى، أين فهد؟!

أبو موسى (بصوت قلق):

– لا نعلم، يا نقيب… فقدنا فهد وناهد في آنٍ واحد! خرجا من المقر السري دون علمٍ من أحد، ولم يتركا خلفهما أي أثر!

حدّق مدرك في الفراغ للحظة، بينما تسارع دقات قلبه… فهد وناهد اختفيا؟! الآن؟! في هذا التوقيت الحرج؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى