الملح والسكر

عماد آل عبيدان
إذا تشابه الوهم مع الحقيقة… أيهما تضع في كأسك؟
التشابه ليس طمأنينة… إنما الطريق الأقصر نحو الخديعة.
كم مرة حدث لك ذلك الموقف المربك؟ تنهض لتصنع كأس شاي حار، تمد يدك إلى العلبة البيضاء بكل ثقة، تملأ الملعقة، تذيب الحبيبات في الماء، تبتسم للحظة، ثم تحتسي الرشفة الأولى… فإذا بالمرارة تلسع حلقك! الملح الذي اختبأ في زجاجة شبيهة، ولم يكن السكر الذي رجوت عذوبته. لحظة كهذه لا تُنسى، لأنها تختصر حكاية كاملة عن الخداع الذي ينسجه التشابه في حياتنا.
هما في الكفّتين سواء: بياض ناصع، حبيبات دقيقة، يلمعان تحت الضوء كحُلمين بريئين. جرّب أن تضع أحدهما مكان الآخر، وستدرك أن التشابه لا يعني الحقيقة، وأن ما يبهرك بلمعانه قد يحرق حلقك، وما يذوب برفق قد يترك أثرًا لاذعًا لا يزول.
الحياة بدورها رفّ طويل من علب بلا بطاقات واضحة ولا طوابع، وصناديق مغلقة بلا عنوان. وجوه لامعة، كلمات حلوة، ابتسامات مسنونة الحواف. في الأسواق، في المكاتب، وحتى في دفء الصداقة، كم من شخص بدا كالسُّكر ثم تبيّن أنه ملح يذيب الأثر والملامح في أول خذلان؟ وكم من آخر ظننّاه قاسيًا كالملح، فإذا به يذوب في أفواهنا حلاوة تُسند القلب والدرب في أشد أزماتهما؟
المأساة أننا نُحبّ القفز نحو الأحكام السريعة. نغمس الملعقة في كأس الحياة دون اختبار، ثم نشكو مرارة تغيّر المذاق. لأننا لم نتعلم أن نذوق الحافة قبل أن نسلم أعماقنا للطعم الكامل. في المجتمع اليوم، تتكرر القصة كل ساعة: مدير يوزّع الابتسامات كقطع الحلوى، بينما يطحنك في أول غياب. صديق يبيعك شعارات الوفاء، ثم يقايض اسمك عند أول مزاد للمصالح.
والتشابه لا يقتصر على الأشخاص؛ يندسّ في الأفكار، في المواقف، في القيم التي تتألق في الخطب ثم تتحطم عند أول امتحان. كل يوم تُطلّ علينا شعارات براقة: حرية، نزاهة، تطوير… نذيبها في فناجين أحلامنا، فنكتشف أن المذاق أقرب إلى صدأ مُرّ من عسل مأمول.
ما تحتاجه عينٌ تفحص وصبرٌ يمنحك مهلة للتأكد من الحقيقة، لا جدارًا يحاصر الثقة. جَرِّب الذرة الأولى قبل أن تبتلع الكأس بأكمله. المظهر لا يكشف الجوهر، وما يسطع بياضه قد يخفي وراءه ملوحة موجعة. الفرق بين الملح والسكر لا تدركه العيون، وإنما يكشفه التذوّق الذي يعلّمك أين تضع قلبك.
الحياة لا تقتص لأنك أخطأت التقدير، ولكنها تؤدب لهاثك خلف اللمعان دون اختبار. الأقنعة تُصنع بحرفية عالية، والزيف يُلمّع حتى يغدو لوحة تخطف الأبصار. لا تحكم على الوعاء من زخارفه، ولا تمنح مفاتيحك ليدٍ مطلية بالوعود. أحيانًا، لمسة بسيطة، رشفة صغيرة، تكفي لتجنبك غصّة طويلة.
الحياة لا تكتب لك الوصايا على الجدران، ولا تنقشها على الحجر، هي تضع أمامك كؤوسًا مختلفة وتترك لك مهمة التذوق. افهمها جيدًا: ما يشبهك في الظاهر قد يؤذيك في العمق. كن يقظًا، تذوّق بحذر، وابتسم حين تكتشف الفارق. ففي أيام تتشابه فيها الألوان حتى حدود الوهم، صار الحذر قمّة الذكاء، وصارت الملعقة الأولى أصدق من ألف شعار.
واحذر البريق إن حرفك عن الجادة
فالعيون قد تُخدع، واللسان قد يتألم، لكن القلب إذا ذاق الخطأ مرة سيحمل ندبة الطعم طويلًا. فلا تجعل كأسك القادمة مريرة، وامضِ متأهّبًا بحكمة ووعي.