أقلام

الانزياح الأسلوبي في شعر جاسم الصحيح

إبراهيم بوخمسين

إن شاعرًا كبيرًا وعملاقًا بحجم جاسم الصحيح، الذي لا تنضب معاني شعره الجمالية من مفردة وجملة وأغراض ومعاني، وهو في تنامٍ مضطرد ويمتح من عين شعر صافية جارية، لا يمكن دراسته أو دراسة شعره من زاوية واحدة، وإلا فقد بخست حقه. هذا من جانب، ومن جانب آخر لا يمكن لشخص مثلي لا يملك الملكات الدلالية والأدوات التحليلية المختصة بالشعر واللغة والنحو والبلاغة لدراسة هكذا ظاهرة. ولكن كما يقول المثل: ” الميسور لا يسقط بالمعسور “.

سنحاول محاولة خجولة في أن نسلط الضوء على الانزياح في شعر الشاعر جاسم الصحيح. ولا بد من تعريف مبسط لمعنى الانزياح قبل أن ندخل في صلب الموضوع.

إن الأدب يعرف الأسلوب باختصار: بأنه الفن الذي يتوصل به الشاعر أو الأديب إلى أهدافه وأغراضه بأوضح وأجمل عبارة وتركيب للكلمات.

وإذا ما جئنا إلى تعريف الانزياح “ويسمى أيضًا ” الانحراف ” كما عرفه الأدباء والأدب بتعريف بسيط: يعني خروج التعبير السائد المتعارف عليه قياسًا في الاستعمال رؤيةً وصياغةً وتركيبًا. أما المقصود بالانزياح البلاغي فهو: الانزياح الجمالي الذي يولد صورا متتالية ويخلق انزياحات عديدة في بنية اللغة الشعرية.

أنواع الانزياح:

الانزياح الاستبدالي: وتمثل الاستعارة والتشبيه والمجاز عماد هذا النوع من الانزياح الاستبدالي “الدلالي “. كما نود أن نوضح بأن الاستعارة لها انواع: استعارة تصريحية واستعارة مكنية واستعارة تمثيلية.

الانزياح التركيبي : ويتعلق بتركيب اللفظة بين جاراتها في السياق الذي ترد فيه. وظاهرة التقديم والتأخير تمثل الحيز الأكبر من الانزياحات التركيبية في الفن الشعري، ويحل في هذا النوع الالتفات والحذف والإضافة.

طبعًا لمن أراد التعمق والتفصيل لهذا الموضوع فعليه الرجوع إلى الكتب والأبحاث الأدبية التي تختص بهذا الشأن علمًا بأن الموضوع شائق ومفيد.

بعد هذا المدخل المتواضع لا نطيل على القارئ، ولنسلط الضوء على موضوعنا الرئيس وهو الانزياح الأسلوبي في شعر جاسم الصحيح:

نبدأ بالانزياح الاستبدالي في شعر شاعرنا وهو الاستعارة أو المجاز في الشعر.

والاستعارة ضرب من المجاز اللغوي، وفي ذلك يقول الجرجاني” وأما المجاز فقد غول الناس في حدِّه على حديث النقل، وأن كل لفظ نقل عن موضعه فهو مجاز. وأما الغرض منها إما أن يكون شرح المعنى وفضل الإبانة عنه أو تأكيده والمبالغة فيه أو الإشارة إليه بالقليل من اللفظ. ولقد استخدم القرآن هذا الأسلوب في أجمل بيان في أكثر من موقع فقول الله سبحانه وتعالى ” يوم يكشف عن ساق” أبلغ وأدخل مما قُصِدَ له من قوله لو قال: يوم يكشف عن شدة الأمر، وإن كان المعنيان واحدًا.

ونذكر القارئ بأن هناك استعارة تصريحية واستعارة مكنية وتمثيلة.

الانزياح الاستبدالي

ذكر شاعرنا في قصيدة: ” ذكراك فوهة الثورات”

مازالَ نهـجُـكَ ( قرآنًا ) نُـباَيِـعُهُ … نحنُ الحروفَ، إلى أنْ تُشْنَقُ (السُّوَرُ)!

في هذه الأبيات، يمكن ملاحظة ما يلي: انزياح استبدالي

– المجاز: يمكن أن نجد المجاز في:

– “نبايعُه” حيث المجاز هو مبايعة النهج أو الفكرة، والمبايعة عادة تكون للشخص، فهنا مجاز عقلي. وهو تعبير عن استمرار المسير في الطريق والنهج الذي خطه الإمام الحسين عليه السلام، وهذا النهج هو نفسه القرآن لأن الإمام هو القرآن الناطق وهو عدل القرآن بنص حديث الثقلين.

– ” تُشْنَقُ (السُّوَرُ)” حيث المجاز هو في شنق السور، والسور لا تُشنق، وإنما المقصود أن يتعرض النص المقدس للتحريف والتشويه، ولقد عبر الشاعر عن نفسه بالحروف التي يكتب بها النهج أو الرسالة، واستخدم ضمير الجمع ليبن ويوضح مدى الدور الذي يلعبه في التعبير عن مشاعره.

– التشبيه: يمكن أن نجد التشبيه في:

– “ما زال نهجُكَ (قرآنًا)” حيث شبه نهج الإمام الحسين “ع” بالقرآن في القدسية والاحترام والدور الذي يلعبه في هداية الأمة، وهذا تشبيه بليغ.

وفي قصيدة: ” أنّى التفتّ فثمّ اسمك”

للحُبِّ (مُزْدَلَفٌ) لديكِ و(مَشْعَرُ) …. أنا ذا (أَحُجُّ)كِ مُغْرَمًا و(أُقَصِّرُ)

في هذه الأبيات، يمكن ملاحظة ما يلي: مجاز استبدالي

– المجاز:

– “أَحُجُّكِ” هنا المجاز هو في حج المرأة ” المحبوبة”، والحج عادة يكون لمكان مقدس كالكعبة المشرفة مثلًا، فهنا مجاز عقلي حيث شبه حبه لها بالحج، وهذا يعبر عن شدة تعلقه وهيامه بها حيث يؤكد حبه بالضمير ” أنا ” ثم أتبعها بـ ” ذا ” كناية وتأكيدًا للقرب والوجود ثم ثلثها بكلمة ” أحُجُّ”كِ مغرمًا ليؤكد ويثبت ويقنع محبوبته بغرامه المؤكد لها خلافا فيما لو قال ” احج اليكِ أي أنوي أن اسافر اليك وآتيكِ.

– الاستعارة:

– “مُزْدَلَفٌ” و “مَشْعَرُ” هنا استعارة مكنية حيث شبه الحب بمكان الحج (مزدلفة والمشعر الحرام)، وهذا يعبر عن شدة تعلقه بها واعتباره لها مكانًا مقدسًا.

– المجاز والاستعارة يتداخلان في:

– “أُقَصِّرُ” هنا المجاز هو في تقصير الشعر، ولكن في سياق الحج، حيث أن التقصير هو أحد أعمال الحج، فهنا استعارة مكنية حيث يحجها مغرمًا ومقصرًا.

قصيدة: ” يا فتاة الوحي …يا وحي الفتاة”

يا فتاةَ الوَحْيِ يا أُمَّ الهُدى … يا هُدى الأُمِّ ويا وَحْيَ الفتاةْ

في هذه الأبيات، يمكن ملاحظة ما يلي:

– الاستعارة: انحياز استدلالي

– ” فتاة الوحي” هنا استعارة مكنية حيث شبه السيدة الزهراء عليها السلام بمصدر الوحي أو الرسالة الإلهية، وهذا يعبر عن مكانتها وقداستها.

– ” أم الهدى” هنا استعارة مكنية حيث شبه السيدة الزهراء بمصدر الهداية أو النور، وهذا يعبر عن دورها في توجيه الناس.

– “وحي الفتاة” هنا استعارة مكنية حيث شبه السيدة الزهراء بمصدر للوحي أو الإلهام، وهذا يعبر عن تأثيرها العميق..

ونلاحظ أن الشاعر استخدم النداء للدلالة على المكانة الرفيعة والقدسية للسيدة الزهراء عليها السلام، واستخدمها أربع مرات للتأكيد على ذلك. وسنتطرق لبيان المعنى أكثر عند حديثنا عن التقديم والتأخير في الانحياز التركيبي.

من قصيدة ” لي في الهوى”

لِيَ أنْ أكونَ (الحُوتَ) في بحرِ الهوى! … لَكِ أنْ تكوني داخلي (ذا النُّونِ)!

لا تُـكثِري ( التـسبـيحَ )؛ ما مِنْ مخرجٍ … مِنِّي، ولا (شطـٍّ) ولا (يـقـطينِ)!

إنِّي قــــفـلـــتُ عــلــيـكِ كلَّ جــوارحي … مُــســتَأنــِسًا بـشُعوريَ المكنونِ

ما كانَ قَــبـلَـــكِ قَـــــطُّ أنَّ قـــصـيـــدةً …. في داخـلي، تسمو على التدوينِ

الاقتباس:

الآية القرآنية التي يُقتبس منها هنا هي قصة يونس عليه السلام في سورة الأنبياء أو سورة القلم، حيث ورد ذكر “ذا النون” و “الحوت” في القرآن الكريم.

الاستعارة:

الاستعارة هنا تصريحية في العديد من المواضع:

– ” لِيَ أنْ أكونَ (الحُوتَ) في بحرِ الهوى” هنا استعارة تصريحية حيث شبه الشاعر نفسه بالحوت في بحر الهوى، وليس هناك بحر من الهوى لأن الهوى شيء معنوي لا مادي. وهي استعارة جميلة لأنه سيكون القلب والمكان الذي ستأتي فيه حبيبته.

– ” لكِ أنْ تكوني داخلي (ذا النُّونِ)” هنا استعارة تصريحية حيث شبه الشاعر محبوبته ب ” ذا النون” أي يونس عليه السلام. وابتدأ عجز البيت بضمير المخاطب ” لكِ” إشارة وكناية عن امتنانه لها أن تكون في قلبه.

كما أن هذا البيت فيه انتقال من المتكلم ” لي ” إلى المخاطب ” لكِ ”

– ” ما مِنْ مخرجٍ مِنِّي، ولا (شطٍّ) ولا (يقطينِ ) أي لا مهرب حتى مع التسبيح الذي نجى نبي الله ” ذا النون” ورماه الحوت بالعراء وهو الشط وأنبت عليه الله سبحانه شجرة من يقطين. ولكن شاعرنا هنا من شدة شغفه بمحبوبته فلا “شط” ولا “يقطين” ولا نجاة ولو سبحت طول الدهر فيجب أن تكون حبيسة قلبه.

علمًا بأن الاستعارة التصريحية هي التي يُصرّح فيها بالمشبه به، بينما الاستعارة المكنية هي التي يُكنّى فيها عن المشبه به. في هذه الأبيات: الاستعارة تصريحية حيث صرح الشاعر بالمشبه به في كلتا الحالتين.

قصيدة: ” حين (الحسين) نوى الصلاة”

قالَ اللواءُ بأنَّ غَيرَكَ … لا تليقُ بهِ الزَّعامَةْ

والنهرُ قالَ بأنَّ زَهْرَكَ …لا تجفُّ بهِ الوَسامَةْ

في هذه الأبيات، يمكن ملاحظة ما يلي:

– المجاز: استبدالي

– ” قال اللواء” واعراب: قال فعل ماض مبني على الفتح وفاعله اللواء وهو مرفوع”، بأن غيرك ” الباء زائدة وأن حرف توكيد ونصب وغير اسم أن منصوب بالفتحة وهو مضاف والكاف كاف المخاطب، ضمير متصل مبني على الفتح في محل جر بالإضافة” والمقصود به الحسين عليه السلام” لا تليق به الزعامة ” هنا مجاز مرسل علاقته جزئية ” حيث أن اللواء هو جزء من القائد لا القائد بكله”، وحيث استخدم ” اللواء ” للإشارة إلى القائد أو الزعيم.

– “والنهر قال بأن زهرك لا تجف به الوسامة ” هنا مجاز مرسل علاقته المحلية، حيث استخدم ” النهر” للإشارة إلى المكان أو البيئة.

– الاستعارة:

– ” قال اللواء” هنا استعارة مكنية، حيث شبه القائد بلواء دون أن يصرح بذلك بشكل مباشر كاستعارة تصريحية.

– ” والنهر قال” هنا استعارة مكنية، حيث شبه المكان أو البيئة بنهر يتحدث، وهذا غير ممكن في الواقع، لذلك هي استعارة مكنية. وهنا يشبه الشاعر الزهر ” الجمال والشباب بالنهر الذي يمنحه الوسامة ويحافظ عليها من الذبول، وحيث أن النهر لا يجف ويبقى مصدرًا للجمال فكذلك هذا الشخص ” القائد” فجماله دائم مستمر.

ونلاحظ كلمة ” النهر ” وهو مبتدأ فهو وصف مرة بالجملة الفعلية ومرة بالجملة الاسمية وهذه بلاغة، حيث اضفى جمالًا على البيت، حيث أن البيت الأول قدم الفعل على الفاعل. انظر كيف جاء هذا التوظيف في البلاغة ليعطي جمالًا لكلا البيتين.

وللتذكير “الاستعارة المكنية هي التي يُكنّى فيها عن المشبه به دون التصريح به، بينما الاستعارة التصريحية هي التي يُصرّح فيها بالمشبه به. في هذه الأبيات، الاستعارة مكنية حيث كُنّي عن المشبه به دون التصريح به بشكل مباشر”.

من قصيدة ” أمُطَبِّبَ الحرفِ الجريح

ونَسَجْتَ من نبضِ الفؤادِ حقيبةً … حَمَلَتْ هواكَ دوالياً وسَواقي

في هذه البيت، يمكن ملاحظة الصور الشعرية التالية:

– الاستعارة:

– ” ونسجت من نبض الفؤاد حقيبة ” هنا استعارة مكنية، حيث شبه الشاعر الحب أو المشاعر بحقيبة تُنسج من نبض الفؤاد. ويأتي أهمية النسج في المعنى حيث ترابط جميع انسجة عضلات القلب وانسجة شغاف القلب وانسجة تامور القلب التي هي مسؤولة عن انقباض القلب وضخ الدم، ثم إنه صنع لها وعاءً ” حقيبة ” محكمًا مغلقًا وضع فيها حبه لها. وهذا الحب مستمر كعطاء الدوالي والسواقي.

الصورة الشعرية الرئيسة في هذه الأبيات هي الاستعارة المكنية، حيث استخدم الشاعر لغة مجازية لوصف مشاعره. العبارة “حملت هواك دواليا وسواقي” تُظهر أيضًا استخدامًا جميلًا للغة، حيث شبه الشاعر ديمومة حبه بعطاء الدوالي والسواقي.

إلى هنا نكون قد انتهينا من الجزء الأول وهو الانحياز الاستبدالي وندخل في

الانحياز التركيبي

التقديم والتأخير: قال الجرجاني في كتاب دلائل الإعجاز: ” هو باب كثير الفوائد، جم المحاسن واسع التصرف، بعيد العناية، لا يزال يُعَّبرُ عن بديعه، ويقضي بك إلى لطيفه، ولا تزال ترى شعرًا يروقك مسمعه، ويلطف لديك موقعه، ثم تنظر فتجد سبب أن راقك ولطف عندك أنْ قدمَّ فيه شيء وحوَّل اللفظ عن مكانه إلى مكان”.

قصيدة: ” يا فتاة الوحي ”

يا فتاةَ الوَحْيِ يا أُمَّ الهُدى … يا هُدى الأُمِّ ويا وَحْيَ الفتاةْ

تطرقنا إلى هذا البيت في الأعلى تحت الانحياز الاستبدالي، إلا إننا نتطرق إليه ثانيا لأنه يشمل على عوامل ودلائل الانحياز التركيبي. ولقد بينا سابقًا بأن ظاهرة التقديم والتأخير تمثل الحيز الأكبر من الانزياحات التركيبية في الفن الشعري، ويحل في هذا النوع الالتفات والحذف والإضافة. وهذا ما سنحاول تناوله في هذا الجزء.

التقديم والتأخير: انحياز تركيبي

تكرر النداء من الشاعر في بيت واحد أربع مرات لما له من الأهمية البالغة والتعبير عن المكانة والقدسية للمنادى به. فالنداء الأول والرابع نرى فيه تقديم وتأخير لكلا الكلمتين فتاة والوحي ثم إنه نكرها مرة وعرفها أخرى للتأكيد والتشديد على أهميتها.

وتقديم كلمة فتاة على الوحي فيه دلالة على أن الزهراء عليها السلام كانت محدثة عليمة وأيضًا كانت قريبة من الوحي فكان الوحي ينزل في منزلها. وأما في تنكير وتقديم وحي ففيه دلالة على أن السيدة الزهراء هي مصدر للهداية أو الرسالة الإلهية وأنها تحمل في داخلها رسالة.

كذلك القول في: يا هدى الأم” هنا التقديم هو في كلمة “هدى” على كلمة ” الأم “، وهذا يدل على أهمية دورها في التوجيه والهداية لأبنائها، كما أن ” أم الهدى ” دلالة لهدايتها للناس أجمعين. يا لجمال اللغة العربية، ألا ترى معي أيها القارئ كيف انتقل المعنى من العموم إلى الخصوص. ويا لبراعة شاعرنا كيف وظف هذه الخاصية لتوضيح هذا المعنى بأقصر طريق.

كما أن هناك معنى آخر يضاف إلى ما سبق: يا فتاة الوحي يا أم الهدى” هنا التقديم هو في وصفها ب ” فتاة الوحي” ثم “أم الهدى”، وهذا يدل على تعدد أدوارها وتأثيرها.

لا نزال في أمثلة التقديم والتأخير وجمال اللغة وجمال الشاعر في توظيف هذه العوامل.

من قصيدة “ما وراء حنجرة المغني” نأخذ ثلاثة أمثلة، تاركين ما فيها من جمال الاستعارة والتشبيه والصور الجمالية التي تغني قراءتها عن وصفها وشرحها.

على السُّهولِ التي تمتدُّ في لغتي … ما زال ينمو معي عنقودُ موهبتي

تقديم خبر ما زال ” الجملة الفعلية ينمو معي” على اسمها ” عنقود “.

والتقدير: ما زال عنقود موهبتي ينمو معي. أنظر إلى جمال التوظيف في التقديم والتأخير، وكيف تم تركيب الجملة وروعة تنسيقها. وكلنا يعرف أن الموهبة ليس لها عنقود وهي شيء معنوي ولكن جعلها كائنًا حيًّا، والعنقود هنا كناية عن تراكم وتنامي وزيادة الموهبة، حيث أن العنقود يدل على تكتل الأشياء كما يتكتل في الثمر، وانظر الى تركيب وتنسيق الجمل بين ” تمتد في لغتي ” و”عنقود موهبتي.

لي خمرةٌ شابَهَتْني في غوايتها … من ” تاءِ تأنيثِها ” استوحيتُ مُخَيِّلتي!

الخبر لي مقدم وجوبا لأنه المبتدأ ” خمرة ” نكرة “. والأصل خمرة لي.

جاء تقديم الخبر وتنكير الخمرة دلالة على تخصيص وتعظيم أن الخمرة ” وطبعا هي خمرة الحب وهنا مجاز أو استعارة “، على غواية محبوبته التي فقط من تاء تأنيثها استوحى كل هذا الخيال والجمال، فكيف به لو جاءت بنفسها له. والخمرة في شعر الشعراء كناية عن الحب والعشق انظر إلى هذا الموشح الذي يصف به السيد محمد سعيد الحبوبي الخمرة وكأنه قد شربها، بينما لم يلامسها ولا رآها.

هَـذهِ الصَّـهْبَاءُ والكَأسُ لَـدَيك … وغَـــرامي فــي هَـــواكَ احْـتَــنَــكا

فاسقني كاسا وخذ كأسا إلـيك … فَـــلَــذِيْـذُ الــعَـــيْشِ أنْ نـَـشْــتَــرِكاَ

اتْرَعِ الأقْــدَاحَ راحاً قــرْقَــفا … واسْقِني واشْربْ، أو اشْرِبْ واسْقِني

فَلُماكَ العَــذْبُ أحْلَى مَرْشــفاً … مِنْ دمِ الـــكَرْمِ ومَــــــــاءِ الـــمُزُنِ

عود على بدء لشعر جاسم:

نذرٌ عليَّ إذا ما خانَني قّدَحٌ … أن أشطبَ الكَرْمَ من تاريخِ داليتي

هنا تقديم الضمير المتصل وهو ” الياء” الذي في محل نصب مفعول به على ” قدح” الذي هو فاعل. والأصل أ يكون: خان قدح إياي. وغرض التقديم هنا لربما شعوره بالخيانة لشدة أنه نذر بأن يشطب الكرم وهو العنب من الدالية وهي كناية عن آنية الخمر.

وهنا مجاز واستعارة فهو نذر بأن يشطب الكرم كناية ربما عن الحب ما إذا خانته محبوبته، وإلا فالقدح لا يخون والكرم لا يشطب. وقد يكون تاريخ داليتي هو تاريخ مخيلتي وعقلي.

حضي الالتفات باهتمام اهل اللغة والبلاغة، فأوردوا له تعريفات عدة لعل أكثرها شهرة وأهمية تعريف ابن المعتز ” 296هـ” له بأنه ” انصراف المتكلم عن المخاطب إلى الإخبار وعن الإخبار إلى المخاطب وما شابه ذلك. ومن الالتفات الانصراف عن معنى يكون فيه معنى إلى معنى آخر. ومن شواهد ابن المعتز في هذا السياق قوله تعالى: ” حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ” فقد كان العدول في الشاهد السابق عن ضمير المخاطبة ” كنتم ” إلى ضمير الغائب” هم”. ” المصدر: كتاب علم البديع ص 143، لعبد العزيز العتيق”

ومن فوائد الالتفات: تجديد الكلام، تأكيد المعنى، وإظهار القدرة البلاغية، وإحداث التأثير العاطفي.

الالتفات في شعر جاسم الصحيح:

مازالَ نهـجُـكَ (قرآنًا) نُـباَيِـعُهُ … نحنُ الحروفَ، إلى أنْ تُشْنَقُ (السُّوَرُ)!

يوجد هنا التفات في هذه الأبيات. الالتفات هو تغيير في الضمير أو الخطاب في النص. في البداية، الخطاب مباشر “نهجك” وهو خطاب للشخص الموجه إليه الكلام، ثم يأتي ” نبايعُه ” وهو تغيير في الضمير من الخطاب المباشر ” نهجك ” إلى ضمير الغائب “ه” في ” نبايعُه “.

هذا التغيير في الضمير يدل على التفات من الحاضر (الخطاب المباشر) إلى الغيبة (الضمير الغائب).

ومن الصور البلاغية الجميلة في هذا البيت الحذف الذي هو أحد ظواهر الانزياح التركيبي،

والحذف في هذا البيت هو إزالة كلمة أو أكثر من الجملة دون الإخلال بالمعنى.

في هذه البيت، يمكن أن نفترض حذفًا في الجملة “ما زال نهجك قرآنًا نبايعُه”، حيث أن الجملة الأصلية قد تكون “ما زال نهجك قرآنًا فنبايعُه” أو “ما زال نهجك قرآنًا حتى نبايعُه”. فجاء الحذف هنا هو حذف الفاء أو حتى، وهذا النوع من الحذف يسمى حذف العاطفة أو حذف الرابط.

في بيت واحد بين لنا شاعرنا مقدرته البلاغية والنحوية والإمساك بناصية البلاغة حيث اشتمل هذا البيت على كلا الانزياح بنوعيه وما فيه من الاستعارة والتشبيه والالتفات والحذف.

مثال آخر على الالتفات:

من قصيدة ما وراء حنجرة المغني:

مضَى أبي وتَبقَّت لي وصيته … كُنْ كامرىِء القيسِ واخلدْ في ” معلقتي ”

هذا البيت فيه كثير من الصور البلاغية الجميلة، ولكن استشهادنا هنا هو حالة الالفات التي وظفها الشاعر ليخرج هذا البيت بحلة بهية:

حديث عن الغائب غاب في الماضي ” مضَى أبي ” ثم انتقل إلى المخاطبة من المتحدث الماضي للمخاطَب إلى المستقبل في ” كنْ كامرىء القيس …”.

الربط بين الأشخاص ومنجزاتهم الخالدة يولد رسوخ الصورة في الذهن، ويبدو أن وصية والد الشاعر مهمة لدرجة أن والده أوصاه بأن يكون شاعرا كبيراً في شعره كامرىء القيس.

قصيدة: ” حديث لابن عباس ”

أميلُ نحوكِ أغــدو قابَ أنـفــاسِ … كما يــمــيلُ نُــوَاسيٌّ على الكاسِ

وألمحُ الحبَّ في عينيكِ يغمزُ لي … فهل أُلامُ إذا استعجلتُ إحساسي؟

ما بين عينٍ وأخرى خطَّ سـيرتهُ … عُـمري، حـكايةُ أشواطٍ وأفراسِ

للهِ حُــسنــكِ حُســنٌ لا قــياسَ لهُ … ما كانَ للهِ لم يـخـضع لـمقـــياسِ

ملأتِني بـكِ حتى مَـسَّني خَــجَـلٌ … من فرطِ ما غازلَتْني أَعْيُنُ الناسِ

ما عـاد يـملأُ رأسي خمرُ دالِـيَةٍ … صُبِّي جمالَكِ حتى يمــتـلي راسي

كلُّ النــساءِ أحــاديــثٌ بلا سَــنَدٍ … وأنتِ.. أنتِ.. حديثٌ لابنِ عـبَّاسِ

أميلُ نحوَكِ والتنصيصُ يجذِبُني … حتى أَشُدَّ على التنصيصِ أقواسي

إذا انتـشَـيـتُكِ فَـرَّتْ روحُ زَنبَقَةٍ … من قبضةِ الحَقْلِ وانحلَّتْ بأنفاسي

وإن كتـبتُـكِ خِلتُ الشَّهْدَ مُفتَرِشًا … صدرَ الكنافةِ حبري فوق كُرَّاسي

فأشـتَهــيكِ إلى أن أنـثَـني نَــهِمًا … أكـادُ آكــلُ أوراقـي وقــرطاســي

– التقديم والتأخير:

تقديم الجار والمجرور ” في عينيك ” على الفعل ” يغمز ” والأصل: والمح الحب يغمز لي في عينيك”. ولقد اضفى هذا التوظيف جمالًا ورونقًا لغويًا على البيت.

– ” تأخير الفعل الماضي المبني على الفتح ” خطّ ” وقدم الظرف ” ما بين عينٍ وأخرى” على الفعل، ويأتي هذا التقديم والتأخير ويدل على أهمية المكان وقرينة على القرب، والمكان هو ما بين العينين ” وتسمى أيضًا ما بين الحاجبين.

هناك التفات أيضًا من الغيبة إلى الخطاب في هذا البيت:

كلُّ النــساءِ أحــاديــثٌ بلا سَــنَدٍ … وأنتِ.. أنتِ.. حديثٌ لابنِ عـبَّاسِ

تحدث الشاعر في الشطر الأول عن النساء قاطبة ” في الغيبة ” بخطاب ” كل النساء أحديث بلا سند، ثم انتقل إلى الخطاب مباشرة مع امرأة معينة ب ” أنتِ ” أنتِ” كررها مرتين، ليؤكد حالة الالتفات وليلفت انتباه حبيبته.

في البيت من الصور الجمالية والإبداع منها ابداء عواطفه فقط لامرأة معينه بخطابه ” أنتٍ” أنتِ” حيث لابن عباس، أي معتبرة بينما بقية النساء لا اعتبار لهن.

إضافة إلى ذلك توجد صور بيانية وبلاغية، انظر إلى كلمات:

أغــدو قابَ أنـفــاسِ، ملأتِني بـكِ، حتى يمــتـلي راسي، أميلُ نحوَكِ، وانحلَّتْ بأنفاسي، وإن كتـبتُـكِ، أكـادُ آكــلُ أوراقـي وقــرطاســي.

كلمات تدل على قرب الحبيبة بل لصوقها به لدرجة أنها ملأت وجوده وانحلت بأنفاسه.

من قصيدة: ” شُبَّاكُكَ المبكَى ونحنُ مآسي ”

شُــبَّاكُكَ الــمـبكَى ونـحـنُ مَآسي … أَبَداً يــشــدُّ جــراحَـنا ويُـوَاسي

ما نَصَّبُوهُ على ضريحِكَ حارسًا … يحميكَ من دَنَسٍ ومن ارجـاسِ

فاللهُ يعرفُ كـيف يحـرسُ نـَفـْسَهُ … والحُــبُّ لا يحــتاجُ للـحُرَّاسِ!

في البيت الأول يوجد تقديم وتأخير في بعض الجمل:

– “ما نصبوه على ضريحك حارسًا” هنا يمكن أن نرى تقديمًا للظرف “على ضريحك” على المفعول به “حارسًا”، والجملة الأصلية قد تكون “ما نصبوه حارسا على ضريحك”. هذا التقديم يعطي التركيز على مكان الحراسة. مما يعطي الجملة قوة تعبيرية ووزنًا شعريًا أفضل.

ولأن القصيدة ألقيت في احتفال مهيب بالعتبة الحسينية بمناسبة تجديد شباك ضريح الإمام الحسين عليه السلام، يمكننا مقاربة معنى البيت الثاني: ” فالله يعرف كيف يحرس نفسه “، الله سبحانه لا يحتاج للحراسة بل هو من يحرسنا لكنها كناية عن حراسة من يحرس مبادئه ودينه، وكان الحسين خير حارسا لذلك ولذا نرى شاعرنا استخدم كلمة ” نفسه ” ليبين عمق العلاقة بين الله والحسين.

وفي الشطر الثاني ” والحُــبُّ لا يحــتاجُ للـحُراسِ! “، كيف يحتاج الإمام الحسين لشباك يحرسه وهو محل عناية الله سبحانه وتعالى. وكان التاريخ شاهدا على ذلك، فكم حاول الظالمون طمس هذا القبر لتطمس معه نهضته وآثاره ولكن حرسه الله وحفظه. ما أجمل هذا البيت واروعه، لخص حقبة من التاريخ في بضع كلمات.

من قصيدة ” المؤذن “:

كأنِّي إذ أرثيكَ أرثي حـقيقـتي.. … ” أنا ” ” أنتَ ” مهما فَـرَّقَـتْـنَا ” الضمائـرُ”

في هذا البيت، يمكن أن نرى الالتفات في الانتقال من ضمير المتكلم ” أنا ” إلى ضمير المخاطب “أنت”، حيث يقول الشاعر “كأني إذا أرثيك أرثي حقيقتي” ثم يذكر “(أنا) (أنت)” بشكل مباشر، مما يُظهر الالتفات من ضمير المتكلم ” أنا” إلى ضمير المخاطب ” أنت” .

وقد استخدم الالتفات هنا لتحقيق التأثير البلاغي وللتأكيد على أهمية الأمر، حيث يُبرز الشاعر العلاقة الوثيقة بين “الأنا” و “الأنت”، ويُظهر أن الفرق بينهما هو مجرد فرق في الضمائر فقط، بينما حقيقتهما واحدة ، كما صور إذ يرثي جاره المؤذن فهو كأنما يرثي نفسه ” أرثي حقيقتي “.

لا يختلف الحال من تطويع الكلمة أو الجملة أو جمال التعبير والتأثير عند شاعرنا جاسم الصحيح بين الشعر العامودي وشعر التفعيلة، واستخدام أغراض الأسلوب البلاغي.

من قصيدة العودة إلى السماء:

يا (فلسطينُ)

وللأنفاقِ في صدركِ

تاريخٌ حَفَرنَاهُ بآلاتِ الشِّقاقْ

ودخلنا النَّفَقَ الأَّولَ..

ما أطولَهُ؟!

” خمسونَ” عامًا

نتلظَّى فيهِ جريًا واحتراقْ!

كيفَ نلقاكِ

وقد أُحرِقَ من أثوابِنا الخيطُ الأخيرْ؟!

كيف نلقاكِ وها نحنُ عرايا؟!

نتبنَّى في قوافينا كفاحاً من حريرْ

في هذا النص، يمكن ملاحظة العديد من الصور البلاغية والأساليب اللغوية، منها:

في هذا المقطع من القصيدة مجاز وتشبيه وحذف. فالمجاز والتشبيه من الانحياز الاستبدالي، بينما الحذف من الانحياز التركيبي:

المجاز

” – للأنفاق في صدرك تاريخ ” هنا مجاز مرسل ” هو نوع خاص من المجاز يتميز بعدم وجود علاقة تشابه بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي”، حيث شبه الشاعر المواقع أو الأماكن في فلسطين بالأنفاق التي تحمل تاريخًا.

“نتلظى جريًا واحتراق” هنا مجاز مرسل أيضًا، حيث شبه الشاعر المعاناة والاضطهاد بالجري والاحتراق.

التشبيه :

“نتبنى في قوافينا كفاحًا من حرير” هنا تشبيه، حيث شبه الشاعر القوافي بسلاح وكفاح بالحرير، والحقيقة كما أن للسلاح المادي التأثير في أرض المعركة أيضا للكلمة والخطاب والشعر الأثر البالغ في الهام الجماهير. كما يستشف أن هناك جلدا للذات ” كيف نلقاك وها نحن عرايا ونعومة “الحرير ” بينما الحال يجب أن نحمل السلاح ونجاهد. فهنا قسوة وشدة وهناك نعومة وراحة.

الحذف :

“ما أطوله!! (خمسون) عام” هنا حذف لاسم الإشارة ” تلك” أو “هي” بعد ما أطوله وهما إشارة للبعيد، والتقدير ” ما أطول تلك الخمسين عامًا”.

أو للفعل، حيث كان يمكن أن يقول “ما أطول خمسين عامًا”، ولكن تم حذف الفعل للتأكيد على طول المدة.

النص يتضمن العديد من الصور البلاغية والأساليب اللغوية التي تُظهر المعاناة والاضطهاد والكفاح من أجل فلسطين.

صور أخرى من جمال شعر جاسم:

كي لا يميل الكوكب

في كلِّ عــضوٍ مــنـكِ روحُ تُــقًى … تُــضفـي عـليه جمالَهُ الأنْقَى

فكأنَّ خــصرَكِ وَسْــطَ عُـــزْلَــتِـهِ … مُــتَـصَــوِّفٌ للــعــالمِ الأبقَى

وكأن جِـــيـدَكِ في اســــتــقامـتِــهِ … مُــتَــمَسِّــكٌ بالعـروةِ الوثـقى

في الخَصرِ ما في الجِيدِ من وَرَعٍ … لا تــسألي مَـن منهما الأتقى

وجوارحي بِــهَـــواكِ قـد غَــرِقَتْ … فأنا هـــنا سَيـلٌ مِنَ الغــرقَى

و أنا الضـــحايا في حــقــيقــتِهــم … لا تَطلُبِي من غـيرِهِم صِـدقا

هيا اعــشـقـــيني كي يُـــتـاحَ لــنا … أن نستعــيدَ لِنَــفــسِنا الـخَـلْقَا

إن لم تَخُوضِي البحـرَ ذات هـوىً … قبلي ولم تَستَكـشِفي الـعُـمْـقَا

فــفــراشـــةٌ في الـــنـارِ واحــــدةٌ … تكفي لأنْ نــتــعلَّـمَ العـِشْـــقَا

هيا اعــشقــيني كي نــطيـــر إلى … أقصى المدى و نُوَسِّعَ الأفقَا

وعلى العِـــنـاقِ نـــرى مَــجَــرَّتَهُ … عُنْقاً تَشُدُّ على الهـوى عُـنقا

زنـــداكِ ميــــزانٌ بِــــثِــقْــلِـهــما … يَزِنُ المَدَارُ الغربَ والـشرقَا

لا تــــرفــعـي زنـــدًا بِـمُــفـــرَدهِ … كي لا يميلَ الكوكبُ الأشقى

وتَـــمَسَّكِي بالـشَّــــوقِ بَــوصَــلَةً … سنضيع حين نُضَيِّعُ الشَّــوقَا

لا تــأمَــنِي لأصــابِــعِــي فـــــأنا … أدري بأنَّ أصــابِـعي حَمْقَى

التضاد : وهو الجمع بين لفظتين متضادتين ” متقابلتين ” في الكلام ولقد أجمع الأدباء أن المطابقة في الكلام هو الجمع بين الشيء وضده في جزء من أجزاء الرسالة أو الخطبة أو البيت من بيوت القصيدة مثل الجمع بين البياض والسواد .. والليل والنهار.. والحر والبر…وهكذا.

مثال على التضاد، وهو من مظاهر علم المعاني في شعر جاسم الصحيح

زنـــداكِ ميــــزانٌ بِــــثِــقْــلِـهــما … يَزِنُ المَدَارُ الغربَ والـشرقَا

في هذا البيت نرى أسلوب التضاد واضحا حيث هنا تضاد بين اتجاهين متعاكسين- ” الغربَ والشرقَا “. والبيت تصوير جميل وتشبيه حيث شبه الزندين بالميزان ولكنه يمتد من الشرق إلى الغرب. وتكتمل الصوة جمالا بالبيت الذي يليه بأن يطلب منها بأن لا ترفع زندًا واحدًا فأنا أخشى سقوط إحدنا ” كي لا يميل الكوكب الأشقى ” فإن يدًا واحدة لا تكفي الاحتضان واحرصي بأن يكون الشوق هو الدافع الحقيقي والمؤشر وإلا سنضيع الطريق، وأزيدكِ من الشعر بيتًا، لا تثقي ولا تأمني بأن أناملي لن تضل الطريق حينما احتضنكِ ” بأن أصابعي حمقى”.

الاعتراض : ويشكل الاعتراض شكلًا من اشكال الانزياح إذ أن الاعتراض يشكل خرقا للمألوف من الألفاظ في تتابعها التركيبي، إذ إنه يوقف سير السرد الشعري، بهدف إيضاح شيء أو توكيد شيء.

يمكننا أن نأخذ مثالين من الاعتراض من الأبيات أعلاه:

في الخَصرِ ما في الجِيدِ من وَرَعٍ … لا تــسألي مَـنْ منهما الأتقى

يخبرنا الشاعر عن أن الورع موجود في الخصر كما هو في الجيد، ثم يرجع ويعترض ” لا تسألي ” من أتقاهما. وفي البيت وصف مكاني ووصف معنوي وكلاهما متلازمان، فالخصر والجيد مكمن من مكامن الجمال في المرأة ولزاما سترهما مراعاة للورع والوقوع في الحرام وفي هذا تقوى الله وطاعته.

أما المثال الثاني فنجده في هذا البيت:

ونلاحظ تعريف وتنكير بعض الكلمات كل ذلك دلالة للتخصيص وللدلالة علي شيء معين كما نلاحظ في الأمثلة أدناه:

– “العالم الأبقى” هنا تعريف للعالم، و”العروة الوثقى” تعريف للعروة.

– “روحُ تُقىً” هنا تنكير لروح التقى.

– “سَيلٌ مِنَ الغرقَى” هنا تنكير للسيل.

هل يمكن القول بأننا وفقنا لإظهار المعاني في هذه الدراسة والأمثلة التي سقناها؟! أم أن المعنى الحقيقي يبقى كما يقول المثل: ” المعنى في قلب الشاعر”

إن دراسة جانب من شعر ودواوين جاسم الصحيح فظلا عن دراستها كلها، لا يمكن اختزالها في بضع ورقات. هذا البحر الزاخر من الشعر إذا ما وُفيَّ حقه من الدراسة سينتج مجلدات من الأدب الاسلوبي والعبارات والمصطلحات الجديدة التي تثري الأدب العربي. ندعو كل من عنده القدرة والتحليل أن يتناول ولو جانبا من جوانب هذا الشاعر العملاق جاسم الصحيح.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى