أقلام

الجنة أو الجحيم… من أين يبدأ الطريق؟

أحمد الطويل

دور المرأة وتربية الفتيات في صناعة الأجيال

مقدمة:

تأمل معي هذه الحقيقة المذهلة: كل حضارة عظيمة، وكل قائد ملهَم، وكل عالمٍ أضاء بنور علمه، بل حتى كل فاسدٍ أظلمت به الدنيا، جميعهم بدأوا من المكان نفسه، من صرخة طفل خرج إلى هذا العالم يبحث عن صدرٍ يحنو عليه، وأذنٍ تسمع أنينه، وقلبٍ يزرع فيه بذور الخير أو الشر. فمن الذي يملك هذا القلب؟ ومن الذي يتحمل تلك الأمانة؟ إنها المرأة، الأم التي تهز المهد بيمينها وتشكّل العالم بيسارها، البنت التي تُربّى اليوم لتصبح أمًّا غدًا، الزوجة التي إن صلحت كان بيتها جنة تتفتح فيه أزهار الفضيلة، وإن فسدت كان بيتها جحيمًا تتفحم فيه كل بذرة طيبة.

أليس من المدهش أن نكتشف أن طريق الجنة أو طريق الجحيم لا يبدأ في معركة، ولا على كرسي حكم، بل يبدأ في حضن امرأة، في عينٍ ترقب وتزرع، وفي قلبٍ يتأمل ويهدي؟

المرأة في القرآن

حين نفتح صفحات القرآن، لا نجد المرأة هامشًا أو ظلًّا، بل نراها صانعة أحداث ورافعة أمم. مريم عليها السلام، تقف وحيدة، قدوة للعباد، رمزًا للطهارة والعفة والإيمان، حتى خصّها الله بسورة كاملة تحمل اسمها. وأم موسى، تلك المرأة التي أوحى الله إليها أن تُلقي بطفلها في اليمّ، فإذا بثباتها ورباطة جأشها يولد نبي يقود ثورة على الطغيان. ثم فاطمة الزهراء عليها السلام، التي شاء الله أن يكون نسل الإمامة والهدى من صُلبها، وكأن الرسالة الإلهية تهمس للتاريخ: لو لم يكن للمرأة دور مصيري في مشروع الهداية لما جُعلت الإمامة ممتدة من ذريتها.

القرآن يهمس لنا: المرأة ليست متفرجًا على مسرح الحياة، بل هي النور الذي يضيء القلوب ويؤسس صرح العدل والإيمان.

القلب الأبيض

الإمام علي عليه السلام يختصر المسألة كلها بجملة بليغة: «إنما قلب الحدث كالأرض الخالية، ما أُلقي فيها من شيء قبلته». الطفولة أرضٌ نقية، والفتيات صحائف بيضاء، وأول ما يُكتب فيها هو ما يرسم ملامح المستقبل، أحياناً كلوحة فنية تتفتح فيها ألوان الخير، وأحياناً كلوحة مظلمة إذا أهملت.

وقد قال السيد عبدالحسين شرف الدين (طاب ثراه): “انشطوا لتربية أولادكم في حداثتهم، فإن نفوسهم حينئذٍ خالية، قابلة لانطباع الأخلاق فيها بسهولة كصحيفة بيضاء تقبل كل نقش يُراد.” من يقرأ هذه الكلمات يشعر بنداء عاجل: من يتهاون في تربية أبنائه وبناته إنما يكتب على جدار المستقبل بخطوط لا تُمحى.

خصوصًا الفتيات، فهن الأمهات المقبلات، اللواتي إن تزينت قلوبهن بالإيمان صارت بيوتهن حدائق تفيض نورًا، وإن خلت من القيم انقلبت البيوت براكين تحرق كل بذرة طيبة.

معمار الحضارة

من زاوية العقل والفلسفة، يولد الطفل صفحة بيضاء، مجرد استعداد فطري ينتظر من يخط عليه. والمرأة هي اليد الأقرب إلى هذه الصفحة، وهي القلم الأول الذي يرسم الحروف على ألواح القلوب.

الفتاة الواعية، العفيفة، المتعلمة، كالشعلة التي تنير الغرفة المظلمة، وكالشجرة الطيبة التي إذا امتدت جذورها أعطت ثماراً تملأ الدروب بالعطر والخير. أما الفتاة التي أُهملت، فهي كشرارة صغيرة قد تشتعل ناراً تلتهم البيت وتنتشر إلى المجتمع كله.

المرأة إذن هي المعمار الحقيقي للحضارة، من يدها تُبنى البيوت، ومن قلبها يُصاغ الرجال، ومن صبرها يُخرج قادة الأمم، لتكون الحياة كلها مرسومة بريشة نورها.

لا تطفئوا النور

سماحة السيد السيستاني دام ظله يحذر: لا يجوز ترجيح الوظائف على تكوين الأسرة، فالزواج سنّة مؤكدة، والعمل ليس إلا مكملًا أو نافلة. كم من فتاة أُغرِيت بسباق الوظائف حتى أضاعت بيتها، ثم ندمت حين لم ينفع الندم؟

ويحذر أيضًا من ظلم الفتيات بتأخير الزواج أو وضع العراقيل بأعراف لم يفرضها الله، مثل مغالاة المهور أو انتظار الأقارب. من يفعل ذلك فقد حبس نوراً كان يمكن أن يضيء بيتًا وأمة. هنا تتلاقى وصايا الدين مع منطق العقل: لا تقتلوا المستقبل بأوهام الماضي، ولا تطفئوا النور بأغلال الأعراف.

الخلاصة:

ها قد تبين الطريق… الجنة أو الجحيم، من أين يبدأ؟ يبدأ من قلب فتاة صغيرة تُربّى اليوم لتصبح أم أمة غداً. يبدأ من يد أم تهز المهد لتصنع رجلًا يهز العالم. يبدأ من حضن امرأة إن صلحت جعلت بيتها جنة، وإن فسدت جعلت بيتها جحيمًا.

الاستثمار الحقيقي ليس في الذهب ولا في العمارات، بل في العقول والقلوب الصغيرة التي إن كُتب فيها الإيمان، كتبت معها حضارة، وإن نُقش فيها الانحراف، نُقش معها الخراب.

فلنستيقظ قبل أن يفوت الأوان. المستقبل يولد اليوم بين أيدينا، في كل قلب صغير ينتظر من يضيئه.

اللهم حصّن بناتنا بالعفة، وأنر قلوبهن بالإيمان، ووفّقهن لتربية أجيال صالحة، تجعل بيوتهن رياضًا من نور، وتكون حُجّة لنا يوم نلقاك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى