أشباه

السيد فاضل آل درويش
ورد عن الإمام الحسن العسكري (ع): ما أقبح بالمؤمن أن تكون له رغبة تُذلّه)(تحف العقول ص ٤٨٩).
هذه التحفة السنية تمثّل رؤية وجودية ومسارًا محوريًا في حياة الإنسان وليست مجرد ترف أخلاقي أو إغراق في معالم المدينة الفاضلة المثالية الزائدة، وذلك أنها تتعلق بفهم الإنسان لمفهوم الحاجات والرغبات المادية ومستوى الاستجابة لها والذي لا يصل إلى خط الكرامة، فالرغبة المتمثلة بمجموعة من الغرائز تتحرك في خط الاستجابة حد الإشباع ودون مراعاة حدود أو قيم، فإذا انفلت عقال النفس ولم يستطع المرء كبح لجامها انساقت في مسير الرغبات الملحّة مهما كانت النتائج والخسائر المترتبة عليها، وليس هناك من خسارة فادحة كانسلاخ الفرد من كيان الكمال والاتزان ليتحول إلى عالم البهيمية والغرائز فيسقط عنه لباس الحياء واحترام الذات، إذ أن الإنسان المكرم بعقله الواعي يضيء له الدرب للتمييز والاختيار واتخاذ القرار بما يتناسب مع وجوده الكمالي، فالرغبات تضع الفرد عند مفترق طرق وتفصل الناس إلى فريقين، فهناك من يحترم وجوده ويراعي في تلبية احتياجاته المادية أن لا تصل إلى مرحلة إهانة نفسه وإذلالها، وآخر يحطم جدارية القيم وعالم الفضيلة فما يحركه هو حب الذات بنحو سلبي وينزل من درجات جنان الاتزان والعفة والاستقامة، ليستقر في حضيض الأهواء والنزوات وكأنه يسير خلف السراب فلا تنتهي رغباته الواصلة إلى حد الطمع والجشع، فالإنسان المتآزر في مسيره مع الفطرة السليمة والعقل الرشيد يطمح أن يجعل نفسه في أعلى درجات الكرامة والمكانة العالية، وعند الوصول إلى محطة الرغبات والاحتياجات المادية يقع الاختبار الكبير والمفصلي الذي يحدد فيه الفرد بعد ذلك هويته ووجوده الحقيقي، فهناك عامل مشترك بين عالم الإنسانية عن عالم البهيمية وهو وجود الغرائز والعمل على تلبيتها، وما يميز بينهما أن عالم البهيمية يعني الحصول على تلبية واستجابة للغريزة كالحصول على الطعام مثلًا بأي طريقة أو وسيلة كانت، وأما عالم الإنسانية المكرمة فيضع الحدود والحواجز (القيم والمباديء) عند إشباع الرغبات بحيث لا تصل إلى مرحلة الخسائر، فالإنسان المؤمن له نظرة وجودية لعالم الدنيا وأنه مرحلة مؤقتة وممر لعالم الخلود في اليوم الآخر، وهذه النظرة لها استحقاقاتها ومنها مراعاة مسألة اغتنام الأوقات وتوحيد الجهود في طريق تحقيق الذات الحقيقي (التكاملي)، وأما حب الدنيا أو حب المال – مثلًا – فالسير خلفه كالأعمى بروح الطمع لن يفضي إلى نتيجة إيجابية مؤثرة في سجل أعماله، إذ تعني تخلي الفرد عن إنسانيته المكرمة وتحوله إلى مجرد حارس لها حتى يرحل عنها دون أن يجد دفء وجودها في عالم القبور، كما أن سلوكه يتحول إلى الانتهازية والرغبات المقيتة وتحصيلها ولو كان ذلك بسلب كل شيء منه حتى كرامته، وهذه الحالة من الاستجابة العمياء ودون وجود رؤية واضحة لحدود التحرك والسعي هو ما ينبغي الحذر منه.
الرغبة هي المحرك الرئيس للفرد نحو تحقيق تطلعاته وأهدافه ومنجزاته، وهي بهذا المعنى تتصف بالإيجابية والمدح ولكنها متى ما تحولت إلى حالة الإشباع غير المحدود فإنها توصف بالمقبوحية، لما يستتبعها من آثار الذلة وسلب الكرامة والإرادة الممانعة للسقوط في أسر الشهوات والأهواء.