زوج جاهز للزمن السريع…. حين غلب بريق المال على دفء القلوب

سامي آل مرزوق
كان الزواج يوماً ما يشبه غرس شجرة صغيرة في أرضٍ عطشى، يضع العريس أول بذرة، فتسقيها الزوجة بصبرها، ويكبر الغرس شيئاً فشيئاً حتى يصير شجرة وارفة يستظلان بها معاً. لم يكن السؤال الأول عن حجم الراتب ولا نوع السيارة، بل عن خُلق الرجل، عن سمعته، عن قلبه القادر أن يصون المرأة ويكون سندها، البدايات كانت متواضعة لكنها صادقة، شقة صغيرة في حي قديم، أو بيت طيني يجمع بين جدرانه حلماً يتسع لكل شيء، لم يكن الأثاث إلا بضع كراسي وطاولة، لكنه كان محاطاً بضحكات صافية.
اليوم تغيرت الحكاية، صار الزواج في أعين الكثيرين سباقاً في المظاهر، وامتحاناً قاسياً للشباب في بداياتهم، البنات، أو على الأقل فئة واسعة منهن، لم يعدن يرين في الشاب شخصاً يمكن أن يكبر معهن، بل يرونه مشروعاً جاهزاً للحياة المترفة، تُسأل الفتاة.. من خطبك؟ فتجيب وكأنها تُعلن عن علامة تجارية، “مهندس براتب عالٍ.. طبيب يملك عيادته.. شاب ورث عن أبيه بيتاً وسيارة فارهة”. وكأن الرجل أصبح بطاقة مصرفية تمشي على قدمين، لا قلباً يفيض حباً.
لا يأتي هذا من فراغ، إننا نعيش في زمنٍ تتلألأ فيه الصور على الشاشات، مشاهير يوزعون الهدايا الثمينة ويعرضون رحلاتهم الباذخة كأنها تفاصيل عادية، الفتاة تتابع، فتتكون في قلبها رغبة دفينة أن تكون مثل تلك التي تُهدى حقيبة بآلاف الريالات أو التي تسافر إلى أوروبا كل صيف، ثم تدخل المقارنة الأشد قسوة، “بنت خالتك تزوجت ثرياً.. صديقتك يهديها زوجها سيارة.. ابنة عمك تسكن في فيلا”. وفي خضم هذا الضغط، يصبح من الصعب على الفتاة أن ترى قيمة الشاب الذي يأتي ببداية متواضعة، مهما كان قلبه صادقاً.
في الدمام، جلس سلمان أمام والد فتاة يحلم بها، أجاب عن أسئلتهم بأدب، تحدث عن طموحه وإصراره على تحسين حياته، لكن السؤال الحاسم كان “هل عندك بيت ملك؟”، حين أجاب بالنفي، انتهى كل شيء، خرج سلمان وهو يشعر أن سنوات تعبه في الدراسة والعمل تحولت إلى صفر أمام سؤال واحد.
في جدة، ماجد خطب فتاة أعجبت به وبأخلاقه، لكنها حين رأت سيارته، المستعملة، “قالت دون مواربة، لا أستطيع أن أظهر بها أمام صديقاتي”، في لحظة، صار قلب الرجل لا يساوي ماركة سيارة.
وفي الرياض، رفض والد ثري شاباً خلوقاً تقدم لابنته، لأنه، كما قال.. “لا يليق بمستوى عائلتنا”. وبعد عام، عادت ابنته مطلقة من زواجٍ بدأ بالترف وانتهى بالخذلان، بينما الشاب الذي رُفض تزوج بفتاة أخرى وصنع معها قصة نجاح ملهمة.
ومع ذلك لا يخلو المجتمع من حكايات مُشرقة، ففي إحدى مدن بلادنا، وقفت فتاة جامعية أمام رفض أسرتها لشاب بسيط تقدم إليها، واصرت قائلة،” أريد رجل يكبر معي لا رجلاً يهب لي حياة جاهزة”، لم تتخل عنه وهو يعمل ليلاً ونهاراً، بل كانت سنداً له في خطواته الأولى، وبعد سنوات من الصبر والكفاح، أصبح ذاك الشاب رجل أعمال ناجحاً، وحين دخل بيته الفاخر الذي شُيد بعرق جبينه، التفتت إليه وابتسامتها تسبق كلماتها ” أجمل البيوت هي التي نبنيها معاً”.
لكن هذه الأصوات الصادقة سرعان ما تبهت وسط صخب المظاهر، فالفتيات في المقاهي يتحدثن عن هدايا أزواجهن، وفي مجموعات التواصل يقارن بين السفرات والسيارات، بينما شباب في مقتبل أعمارهم يئنون من ضغط الرواتب وغلاء المعيشة، بعضهم يؤجل الزواج لأن المطالب تفوق قدرته، وبعضهم يدخل دوامة القروض ليبدو مناسباً، فيبدأ حياته مثقلاً قبل أن يفرح.
الأخطر أن هذا التوجه لم يثمر استقراراً، كم من زواج فخم انتهى سريعاً، وكم من بيوت متواضعة دامت دهوراً، المال يَشتري السقف والجدار، لكنه لا يَشتري دفء الليالي ولا ضحكات الأطفال ولا سكينة القلوب، والمجتمع يشهد هذا التناقض يومياً، لكنه ما زال يكرر السؤال ذاته، “كم راتبك؟ ما سيارتك؟ أين بيتك؟” وكأننا لم نتعلم بعد أن ما يبقى ليس ما نملك، بل من نملك.
حين نفكر بعمق، ندرك أن الزواج ليس حفلة تُقام ولا هدية تُشترى، بل حياة تُبنى يوماً بعد يوم، قد نغتر بالمال، لكنه يذبل إن خلا البيت من المودة، قد ننبهر بالسيارات والقصور، لكنها تصير باردة إن لم يكن فيها قلب حنون، إن البنت التي تبحث عن زوج جاهز قد تحصل على رفاهية عابرة، لكنها قد تخسر دفء شريك لو صبرت معه لكان أجمل قصص حياتها، والشاب الذي يلهث وراء المظاهر ليرضي العيون، قد يبدأ حياته بدَينٍ ثقيل يطفئ فرحته قبل أن تشتعل.
المجتمع كله مطالب أن يراجع معاييره. هل نريد بيوتاً تشبه الصور اللامعة على “إنستغرام”، أم بيوتاً حقيقية تتزين بالحب؟ هل نريد زيجات تبدأ بالديون وتنتهي بالطلاق، أم بيوتاً تبدأ بالبسيط وتكبر مع الأيام حتى تُصبح مضرب المثل في الدفء. ويبقى السؤال مفتوحاً أمام كل بنت وكل شاب، هل تبحثين عن رجل يملك حساباً كبيراً، أم عن رجل يملك قلباً كبيراً. وهل تبحث يا شاب عن فتاة ترى فيك بطاقة صراف، أم عن شريكة ترى فيك المستقبل مهما كان الراتب.