أقلام

المنهج النبوي في صناعة التحوّل المفاهيمي

زاهر العبد الله

قال تعالى:

{لَقَدْ مَنَّ اللَّـهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (164)} [آل عمران]

تمهيد

المتأمّل في الآية المباركة بعين العقل والقلب يجد أن هناك مجهودًا عظيمًا قام به النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) في بناء النفس البشرية، ورفع الوعي فيها، وإحياء الفطرة السليمة التي لوّثتها براثن الجاهلية. تلك الجاهلية التي صنعت حجبًا مظلمة على نور العقل والفطرة.

فحين بعث الله نبيَّه الأعظم محمدًا (صلى الله عليه وآله)، لم يكن التحدي الأكبر في بناء مجتمع الإسلام مجرّد وضع أحكام وتشريعات، بل كان التحدي الأعمق هو تغيير الجهاز المفاهيمي السائد آنذاك: جهاز ملوَّث بالجاهلية، قائم على العصبية القبلية، وعبادة الأوثان، وازدراء العقل، وتحقير المرأة، وخلط الحق بالباطل، وانتشار الفواحش، وأكل القوي للضعيف، والتلذذ بالاستعباد والشهوات.

هنا جاء النبي الأعظم محمد (أرواحنا فداه) ليضع منهجًا لتحرير النفس من سجن الجاهلية، وفكّ أسرها من جهاز مفاهيم غارق في ظلمات الجهل، فبدأ الإصلاح بما يلي:

١- المنهج القرآني في التربية والتغيير

اعتمد النبي (صلى الله عليه وآله) القرآن الكريم كأداة أساسية في هذا التغيير، فهو كتاب هداية وصناعة وعي. يقول تعالى:

{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (2)} [الجمعة].

فالرسالة لم تبدأ بالأحكام فقط، بل بدأت بالتلاوة والتزكية والتعليم؛ أي بإعادة تشكيل العقول والقلوب، وإرجاعها إلى الفطرة السليمة التي من أجلها خُلقت. قال تعالى:

{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّـهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّـهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)} [الروم].

٢- ترسيخ القيم النبيلة بدل العصبية

كان العرب يفتخرون بالأنساب والدماء، فجاء النبي (ص) ليحوّل معيار التفاضل من العصبية إلى التقوى والعمل الصالح، كما في قوله تعالى:

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)} [الحجرات].

وأكد النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) هذا المعنى بقوله:

(إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ودينكم واحد، ونبيكم واحد، ولا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر، إلا بالتقوى) (1)

فبهذا ضرب الأساس الفكري للعصبية، وزرع مكانه مفهومًا جديدًا هو وحدة الإنسانية تحت مظلة الإيمان.

٣- العقل محور الهداية

لم يكن منهج النبي قائمًا على القهر، بل على إحياء العقل والفطرة. فقد ورد عن الإمام علي (عليه السلام) بعث الله محمداً (صلى الله عليه وآله) ليُخرج عباده من عبادة الأوثان إلى عبادته، ومن طاعة الشيطان إلى طاعته، بقرآنٍ قد بيّنه وأحكمه، ليعلم العباد ربهم إذ جهلوا، ويقرّوا به إذ جحدوا، وليثبتوه بعد إذ أنكروه» (2)

فجاء التغيير عبر فتح أبواب التفكير، وإيقاظ العقول من سباتها العميق.

٤- الرحمة قبل السلطة

لم يفرض النبي رؤيته بالسيف ابتداءً، بل جعل الرحمة والموعظة قاعدةً للتغيير، مصداقًا لقوله تعالى:

{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ (159)} [آل عمران]

وقد ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصف دور النبي الأعظم محمد (ص)

(فبعث إليهم محمدًا (صلى الله عليه وآله) فعلّمهم الكتاب والحكمة إكرامًا وتفضلًا لهذه الأمة، وأدّبهم لكي يهتدوا، وجمعهم لئلا يتفرّقوا، وفقّههم لئلا يجوروا، فلما قضى ما كان عليه من ذلك مضى إلى رحمة ربه حميدًا محمودًا» (3).

٥- بناء الإنسان قبل الدولة

ركّز النبي (ص) على صناعة الإنسان الجديد الذي يحمل مفاهيم الإيمان في روحه وعقله وخلقه وتعامله، ثم شيّد الدولة على الرحمة التي منحه الله سبحانه إياها، حيث قال تعالى:

{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء].

وقد أوضح أمير المؤمنين (عليه السلام) هذا الدور العظيم في شخصية النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم ) بقوله:

(لقد قرن الله به (ص) من لدن أن كان فطيمًا أعظم ملكٍ من ملائكته، يسلك به طريق المكارم، ويعلّمه محاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره» (4).

فالتغيير الجذري بدأ من تربية الصفوة الأولى من المؤمنين الذين حملوا الرسالة بوعي وإخلاص.

الخلاصة

إن المنهج النبوي في تغيير الجهاز المفاهيمي لم يكن مجرد تعليمٍ جامد، بل كان مشروعًا متكاملًا:

• قرآنٌ يُتلى،

• تزكيةٌ تُهذّب،

• عقلٌ يُستنهَض،

• رحمةٌ تُنشَر،

• وإنسانٌ يُبنى.

وبهٰذا انتقل المجتمع من جاهليةٍ مظلمة إلى حضارةٍ تنبض بالنور، ومن عبودية الحجر إلى عبودية خالق البشر سبحانه وتعالى. والحمد لله رب العلمين.

المصادر

1. ميزان الحكمة – محمد الريشهري – ج ٤ – ص ٣٦٢٩.

2. ميزان الحكمة – محمد الريشهري – ج ٤ – ص ٣٠٠٦.

3. بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج ٢٨ – ص ٨٨.

4. جامع أحاديث الشيعة – السيد البروجردي – ج ١ – ص ٦٨.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى