أقلام

اقتناص (١)

السيد فاضل آل درويش

ورد عن مولاتنا الزهراء (ع) : اللهم اجعل غفلة الناس لنا ذكرًا)(صحيفة الزهراء ص ١٥٠).

هل يمكن لحالة الظلام والغفلة والجهالة التي يحياها البعض من الناس أن تتحول وتصبح مصدر نور ومعرفة وهداية لنا؟

قبل الإجابة لابد لنا من مقدمة تتعلق بحقيقة الدعاء ومفهومه، والنتائج والآثار المرجوة منه، إذ أنه ليس مجموعة من الكلمات يرددها الداعي وينتظر الأثر الكبير لها بعد ذلك، بل الدعاء منظومة بناء معرفي وأخلاقي وروحي تُصاغ من خلاله شخصية المؤمن ويكتسب ما فيه من مضامين عالية، فتقدّم الأدعية رؤية لتبصّر الفرد بذاته واستكشاف ما هي عليه من قدرات وإمكانات ونقاط ضعف ومعايب؛ لينطلق بعدها إلى ميادين الحياة محققا آماله وأهدافه وطموحاته وقد بُنيت خطاه على قاعدة صلبة من المعرفة، كما أن علاقته بالناس تحمل في طياتها مجموعة من الدروس والعبر يستطلعها ويدركها من جعل مجهر عقله يتفحّص الحدث بما هو حدث يتضمّن العبرة، وما يحمله من اتجاهات النفس البشرية في التصرفات والسلوكيات والنتائج المترتبة على ذلك في الاتجاه الإيجابي أو السلبي، ففي الوقت الذي ينشغل فيه أصحاب العقول البسيطة بالتفاصيل والخصوصيات والتلصّص على مجرياتها، يتطلّع المؤمن إلى الأحداث بوصفها سلوكًا بشريًّا ينبع من وجهة معرفية تستبطنها النفس وتتجرد للواقع حين يمارس تلك الفكرة القابعة في ذهنه، فالغش أو الكذب – مثلًا – حينما نجده كممارسة من أحد غيرنا قد يحمل بين أسطره حكمة معرفية لنا، ننتزع منها ماهو مهم ومفيد لنا بما يتعلق بالعوامل المؤدية لممارسة هذه الآفة الأخلاقية وكيفية المحافظة على النفس من الوقوع فيها، وحينئذ تصبح أخطاء ومنزلقات ومعايب الآخرين مورد تذكير وتنبيه وتحذير لنا من الوقوع في مثلها، وهكذا يحوّل المؤمن أخطاء الآخرين، والتي وقعت منهم في لحظة طيش وغفلة إلى منبه وكأنه يخاطبه بكلمات ترن في أذنيه، بأن ينتبه من مخاطر الغفلة والجهالة وحفر المكر الشيطاني وأهواء النفس المؤدية به إلى الهاوية.

مولاتنا الزهراء (ع) في هذا المقطع من الدعاء الذي يمثّل موسوعة ومجموعة من القيم والمعاني التربوية والروحية، والتي تساهم في البناء التكاملي لأنفسنا وترفعها لدرجة الوعي في مواجهة العوامل المؤدية إلى سقوطنا على أرض الشهوات والأهواء. فتقدّم لنا صورة حية وفاعلة ومؤثرة في توجيه سلوكنا نحو جني الثمار والاستفادة، وأولها التعلّق بالله تعالى والتوجه إليه في كل أحوالنا واليقين بأن متعلق التدبير والتغيير في حياتنا هو الله عز و جل، وبذلك ننفض أيدينا عن العوامل المادية للقوة والتأثير المطلق بذاتها دون أن يأذن الباري تعالى في إحداثها لأثر معين، وسوء الحال وصعوبته الذي نحياه من خلال حالة التقصير المصاحبة لنا في ما نؤديه من أعمال، ومكامن الأخطاء التي نقدم عليها في مسيرنا اليومي على مستوى علاقتنا بالله عز وجل أو بالناس من حولنا، نحتاج إلى قوة ممانعة تحصّن نفوسنا من الاستجابة للأهواء والنزوات بما يصلح حالنا ويرفعنا إلى درجة النباهة والنضج في التصرفات، نطلبه من الله تعالى كأفضل رغبة ومنحة إلهية نكتسبها وتساعدنا على تبديل السلوك الإنساني المستهتر والمتهور والانفعالي إلى سلوك معنوي راقٍ يتصف بتحمل المسؤولية والاتزان النفسي وتلوجداني، فأمامنا مشهدان للسلوك الإنساني في هذه الحياة يمارس الفرد أحدهما بما يحمله من فكر ومعانٍ مختزلة في نفسه، فهناك من تغيب عنه الحقائق بسبب انشغاله بالمظاهر المادية حتى تلتصق بذاكرته وفعله بنحو مستمر، وهناك من يرى في ميادين الحياة ممرا يمتليء بالحفر والعراقيل التي قد يهوي في إحداها بسبب الغفلة، والعاقل من كانت له درجة من الوعي والتنبه بتحويل أخطاء الآخرين إلى فرص للتعلم والتنزه من الوقوع فيها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى