ميلاد النور وانطفاء نار الظلام: في ذكرى مولد النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله

أحمد الطويل
مقدمة:
أيها الأحبة أيها العاشقون لمحمد وآل محمد أيها المنتظرون في هذا الزمان ظلال النور والرحمة،
نحن الليلة لا نقف عند حدث عابر من أحداث التاريخ، بل عند اللحظة التي غيّرت مسار البشرية إلى الأبد.
في تلك الليلة الحالكة السواد، حين كانت الأصنام منصوبة فوق الكعبة، وحين كانت النيران تُعبد، وحين كان الظلم ينهش قلوب البشر، وُلد النور! ارتجّت الأرض، أشرقت السماوات، سقطت الأصنام على وجوهها، وانطفأت نار فارس التي لم تخمد ألف عام، وغاضت بحيرة ساوة، وارتجّ إيوان كسرى حتى تساقطت شرفاته.
لقد صاح الكون كله بصوت واحد: جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقًا.
وها هو محمد بن عبد الله، خاتم الأنبياء، المصباح الذي لا ينطفئ، يولد في مكة ليكون رحمة للعالمين.
مولد سماوي لا أرضي
تحكي السيدة آمنة والدة النبي: «خرج مني نور أضاء قصور الشام» (بحار الأنوار، ج15، ص257). ولم يكن ذلك النور إلا إعلانًا بأن القادم ليس إنسانًا عاديًا، بل حبيب الله وخاتم أنبيائه.
وتروي أن نسوة طوالًا جئن يحيطنها ويقلن: أبشري يا آمنة، لقد ولد سيد العالمين. حتى إذا خرج المولود الطاهر، غطّته غمامة بيضاء، وسمع هاتف من السماء يقول: «طوفوا بمحمد مشارق الأرض ومغاربها ليُعرف باسمه ونعته».
أما في مكة، فقد صاح يهودي حين رأى الكواكب تتحرك: «لقد وُلد نبي هذه الأمة، هذا نبي السيف، لقد ذهبت النبوة من بني إسرائيل إلى الأبد» (كمال الدين، ص170). فسقط مغشيًا، مدركًا أن عهدًا جديدًا قد بزغ، وأن ميزان التاريخ قد تبدّل.
طفولة بين اليتم والبركة
شاء الله أن يولد يتيمًا ليكون اتكاله على ربه وحده. قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى [الضحى:6].
فقد أباه قبل أن يولد، وفقد أمه آمنة وهو لم يتجاوز السادسة. فاحتضنه جده عبد المطلب، وكان يراه بعين التقديس ويحدّث الناس أن لهذا الغلام شأنًا عظيمًا، ثم أوصى به إلى أبي طالب الذي أحاطه بحبه ورعايته، فكان له الأب الحامي والسند الأمين.
وهكذا نشأ النبي صلى الله عليه وآله في بيت الطهارة والكرامة، محاطًا بعناية الله منذ نعومة أظفاره، بعيدًا عن لوثات الشرك واللهو، حتى إذا شبّ صار الصادق الأمين الذي وضعت قريش ودائعها عنده، قبل أن تبعثه السماء برسالتها.
شباب الصادق الأمين
في زمنٍ امتلأ بالظلم والانحراف، كان محمد كالكوكب المضيء في سماء مظلمة. لم يعرف لهوًا ولا لغوًا، بل شهدت له قريش بالصدق والأمانة، وأودعت عنده أسرارها.
وحين اختلفوا في وضع الحجر الأسود، حكّموا الأمين، فبسط رداءه الشريف، ووضع الحجر فيه، وجعل رؤساء القبائل يحملونه جميعًا، ثم وضعه بيده الطاهرة في مكانه، فحقن الدماء وجمع القلوب.
قال الإمام علي عليه السلام: «لقد قرن الله به من لدن أن كان فطيمًا أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم» (نهج البلاغة، الخطبة 192).
البعثة بداية الثورة السماوية
وعندما بلغ الأربعين عامًا، ارتفعت نداءات السماء إليه في غار حراء: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق:1].
من تلك اللحظة انطلقت الرسالة السماوية، وارتجّت أركان الجاهلية، وارتجف الظلم من هالة النور التي حملها رسول الله صلى الله عليه وآله.
كانت دعوته ثورة على كل ما هو باطل: على الأصنام، على الجهل، على الطغيان. واجه بالتكذيب والعداء، لكنه صبر وصمد، حتى صارت كلمته أعلى من كل سيف، ورسالته أعظم من كل مملكة.
المعاجز شواهد الرسالة وبيان الصدق
لم يكن محمد صلى الله عليه وآله مجرد رجل صالح يدعو بالكلمة، بل أيّده الله بآيات باهرة تثبت صدقه وتقطع العذر على المنكرين.
فقد تسابقت المعجزات بين يديه: فإذا قبض حفنة من الحصى، سبّح الحصى في كفه حتى سمعه الصحابة. وإذا جاع أصحابه، بارك الطعام القليل حتى أطعم به الجموع وشبعوا جميعًا. وإذا عطشوا، تفجّر الماء من بين أصابعه كما تتفجر من الصخور عيونًا غزيرة.
وفي ليلة من الليالي، طلب المشركون آية، فأشار النبي صلى الله عليه وآله بيده إلى القمر، فانشق نصفين حتى رأوا جبل حراء بينهما، ثم عاد فالتأم، فأنزل الله في ذلك قوله:
﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ﴾ [القمر:1-2].
لكن كل تلك المعاجز لم تكن إلا مقدمات للآية الكبرى، والحجة الباقية، المعجزة التي لا تبلى ولا تزول: القرآن الكريم. كتاب تحدّى الفصحاء والبلغاء، وأعجز العقول والعلماء، وما زال نوره يتحدى الدنيا كلها ببيانه وتشريعه وعلومه. ومن بلاغته أن عيسى عليه السلام بشّر به قائلًا: ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾، فاختار “أحمد” لأنه اسم تفضيل يدل على من سيكون أحقّ بالحمد، بينما “محمد” لا يُطلق إلا بعد أن يوجد ويُحمد، فكان في هذا التعبير إعجاز بلاغي يليق بمقامه الشريف.
وصيته الخالدة للأمة
أيها الأحبة ليس لميلاده معنى إن لم نتمسك بوصيته. لقد جمع الأمة في آخر أيامه، وأكد قائلًا:
«إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا» (الكافي، ج1، ص294).
هذا هو العهد: فمن أحب محمدًا حقًا، فليكن وفيًا لكتابه، صادقًا في ولائه لعترته الطاهرة.
نور الصادق يقترن بمولد جده
ولم يشأ الله أن يكون يوم المولد النبوي الشريف نورًا واحدًا فقط، بل شاء أن يقترن بمولد الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام، سادس أئمة أهل البيت، الذي فجّر ينابيع العلم، وأرسى قواعد الفقه، حتى قيل: لولا جعفر لاندثر فقه آل محمد.
فاجتمع النوران في يوم واحد: نور الرسالة ونور الإمامة، ليبقى الدين متصلًا بسلسلة الهداية الإلهية، من محمد المصطفى إلى جعفر الصادق، وصولًا إلى الحجة بن الحسن عجل الله فرجه الشريف.
الخلاصة:
عهد الولاء وتجديد البيعة.
أيها الأحبة يا عشاق محمد وآل محمد إن ذكرى مولده الشريف ليست مجرد مناسبة نحييها، ولا تاريخًا نقرأه، بل هي صرخة نور متجددة، نداء سماوي يتردد في أعماق الزمان: عودوا إلى محمد، عودوا إلى القرآن والعترة، عودوا إلى مدرسة النور قبل أن يطويكم ظلام الغفلة.
يا رسول الله سلام عليك يوم وُلدت، ويوم بعثت رحمة للعالمين، ويوم رحلت عن الدنيا ورأسك في حجر وصيك علي، والزهراء تبكيك، والحسن والحسين يحيطان بسريرك الطاهر، والملائكة تنزل لقبض روحك الطيبة، وأنت تقول: مع الرفيق الأعلى.
سلام عليك يا محمد، يا من بكتك السماء والأرض، يا من بشّرت فاطمة بأنها أول اللاحقين بك، وأخبرت عليًا بما سيجري عليه، وبكيت للحسين كربلاء دمًا بدل الدموع.
أيها الأحبة كما أطفأ الله يوم مولده نار فارس، سيطفئ الله بنوره نيران الجهل والظلم في زماننا إذا عدنا إلى محمد وآل محمد. فالمولد ليس مديحًا عابرًا، بل عهد وبيعة ونهضة.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وارزقنا الثبات على ولايتهم، وحسن العاقبة معهم. اللهم اجعل ذكرى مولده نورًا في قلوبنا، وقوة في عزائمنا، ووقودًا لنهضتنا، وبوصلة لحياتنا. اللهم لا تحرمنا من النظر إلى وجه نبيك الكريم، ولا من شربة من حوضه، ولا من شفاعته يوم الدين. واجعلنا ممن يُنادَون تحت لوائه: هذا شيعة محمد وآل محمد، واحشرنا معه ومع أهل بيته في أعلى عليين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
المصادر:
القرآن الكريم
الكافي، الشيخ الكليني
بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج15
كمال الدين وتمام النعمة، الشيخ الصدوق
نهج البلاغة، خطب الإمام علي عليه السلام
أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين